واستحبابه قولان باب الفتيا بضم الفاء مقصورا وهي الحكم في المسائل الكلية وتطبيقها على الوقايع الجزئية هو القضاء فكل قاض مفت ولا عكس وهي كإقامة الحدود ولا تزيد على قسمين وإنما هي للإمام أو نائبه الخاص أو العام وإن تعدد تعلق بهما الوجوب على الكفاية كما مر ولها جلالة فإن المفتي وارث الأنبياء وقائم بفرض الكفاية فيما يتوقف عليه نظام الدنيا والدين وفيه خطر عظيم فإن أجرأكم على الفتيا أجرأكم على الله كما في الحديث النبوي وورد عن أبي عبد الله (ع) كل مفت ضامن وفي حديث آخر لا تحل الفتيا في الحلال والحرام بين الخلق إلا لمن كان اتبع الخلق من أهل زمانه وبلده وناحيته بالنبي صلى الله عليه وآله وفي آخر لا تحل الفتيا لمن لا يستفتي من الله بصفاء سره واخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كل حال ويجب السعي في تحصيل مرتبتها كفاية على جميع المستأهلين لها فإن أخلوا جميعا اشتركوا في الإثم فإذا شرع بعضهم في الاشتغال لم يسقط وجوبه عن الباقين ما لم يبلغ المرتبة المطلوبة بخلاف صلاة الجنازة مثلا ونحوها من الكفائيات التي يحكم بسقوط السعي إليها بمجرد شروع بعض المكلفين بها عن البعض الآخر لأنها أمور يسيرة إذا اشتغل بها الواحد حصل الظن القوي بخروجه عن العهدة وكفايته الفرض في أدنى زمان فلا مانع عن سقوط السعي عن الباقين سقوطا مراعى باستمرار الشارع إلى الغاية أما تحصيل مرتبة الفتيا فمن الأمور الصعبة البعيدة المنال التي لا تتأتى إلا بصرف أوقات مديدة وطي عقبات شديدة وكثيرا ما تعوق عنها العوايق وتحجز دونها البوائق أو يسبق طالبيها الحين أو يرجع بخفي حنين ومن ثم كثر الطالبون وقل الواصلون كما قيل خليلي قطاع الفيافي إلى الحمى كثير وأما الواصلون قليل فلا يمكن الحكم بسقوط الوجوب عن أحد إلا بعد حصول الكفاية بغيره ومتى تحقق بالوصف المعتبر وجب على الناس الرجوع إليه فإذا سئل عما يحتاج إليه وليس هناك غيره فمن يصلح للافتاء تعين عليه الجواب إن علمه حذرا عن اللعن والالجام بلجام من نار الموعودين على كتمان العلم كما سبق في المقدمة وإن كان ثمة غيره فالجواب في حقهما فرض كفاية وأن لا يعلمه بالفعل استفرع الوسع في تحصيله أو أرشده إلى العالم به إن أمكن شئ منهما وإلا أرشده إلى الاحتياط إن وجد إليه سبيلا كما إذا دار اشتباه بين الوجوب وما عدا التحريم من الأحكام الثلاثة أو التحريم وما عدا الوجوب أو فعلين وجوديين يعلم وجوب أحدهما لكن لا بعينه فيقول في الأول الاحتياط في الفعل وفي الثاني في الترك وفي الأخير الجمع ونحو ذلك وقد يتعارض الاحتياطان فيختار أقواهما دليلا وأوثقهما في نفسه وحقها أن لا يفتي في حال تغير خلقه وشغل قلبه بما يمنعه من كمال التأمل في السؤال والجواب كغضب أو جوع أو نعاس أو حزن أو فرح غالب أو نحو ذلك ما لم يتضيق وجوبه فليستحضر ذهنه ويكرر النظر حتى يطمئن ثم يجيب وإن أفتى في بعض هذه الأحوال معتقدا أنه لم يمنعه ذلك من ادراك الصواب صحت فتواه على كراهة كما قيل لما فيه من المخاطرة وأن يحسن التأمل في السئول فإن كان السائل قريبا راجعه في مواقع الاحتمال والاشتباه وإن كان بعيدا استوفى في الجواب جميع الشقوق المحتملة وإن اقتضى الحال الاقتصار على بعضها أفصح عنه بقوله إن كان المراد كذا فالجواب كذا ويرفق بالمستفتى وإن أساء الأدب فإن الخرق ربما يوجب تلجلجه في السئول أو قصوره عن الافصاح به ويصبر على تفهم سؤاله إذا كان معقد اللفظ ولا يتضجر بذلك وعلى تفهيم جوابه إذا كان بعيد الفهم فيكرر عليه بالألفاظ المانوسة ويمثل له المعقول بالمحسوس وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يستثفر على ثيابه لتعليم المستحاضة ويرفع رجله إلى الحايط لتعليم استبراء الحائض ونحو ذلك ويبين الجواب بيانا شافيا يزيل الاشكال على وفق ما يقتضيه حال السائل فإن كان عاميا محضا صرح له بالجواز أو عدمه أو الوجوب ونحوه وإن كان من أهل المعرفة في الجملة أشار إلى الدليل والمعارض والتأويل وأنه من مواقع الاجماع أو الخلاف فإن ذلك مما يوجب مزيد الوثوق بالفتوى كل ذلك بالعبارات الصحيحة الفصيحة وإن كتب الجواب حيث تمس الحاجة إليها كتب بخط واضح عند المستفتي ولينقط ويعرب مظان الاحتمال وعبارة صحيحة سلسة غير مغلقة ولا غريبة ولا مستهجنة وليتحرز عن الألفاظ التي يمكن تصحيفها بسهولة إلى ما يغير المعنى وهذه كلها داخلة في التبيين وأن يستعيذ عن الشيطان أولا ويسمي الله ويحمده ويصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وآله ويدعو بقوله رب اشرح لي صدري الآية ونحو ذلك ويحولق بقوله لا حول ولا قوة إلا بالله وليحذر كل الحذر إذا علم بالمواقعة أن يميل في فتواه إلى أحد الخصمين أو يخصه بحيل شرعية أو يأتي في جوابه بما هو له دون ما هو عليه أو يعلمه ما يدفع به حجة صاحبه أو نحو ذلك وفي التحذير عن الميل غنى عما بعده وإنما ذكره تأكيدا كيلا يتوصل بذلك إلى أن يبطل حقا أو يحق باطلا وربما يوجد من قوله وإن كتب إلى هنا مخطوطا عليه في بعض النسخ المصححة ويلزم على المستفتي أن يبحث عمن له أهلية الافتاء بحيث يحصل له العلم أو الظن الغالب بأهليته وذلك إما بالممارسة المطلعة على حاله إن كان من أهلها أو بشهادة عدلين أو بشياع حاله بكونه متصفا بذلك أو باذعان جماعة من العلماء العالمين بالطريق كما ذكره الشهيد الثاني وغيره وأن لا يرجع إلا إلى ثقة ناقل عن المعصوم على الوجه المعتبر وفي اشتراط الأهلية غنى عن هذا وكأنه أراد تفصيل ما أجمله أولا مما تتحقق به الأهلية فإن اتحد تعين ووجب قبول قوله والراد عليه كالراد على أهل البيت وهو كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله عز وجل وإن تعددوا وتوافقوا فكذلك بل أبلغ وإن اختلفوا فليرجع إلى الأعلم الأتقى منهم لأن الظن به أقوى وأوثق فإن تعارض الوصفان بأن كان أحدهما أعلم والآخر أورع فالأعلم وكذا إن تساويا في الورع وتفاضلا في العلم فإن تساويا في العلم وتفاضلا في الورع
(٢٠٥)