محسن إلى الناس ولو في البلاد البعيدة التي لا مطمع للسامع في الوصول إليها فإنه يميل إليه بالقلب ويحبه ويدعو له بالخير وليس ذلك إلا بسبب الاحسان المحبوب بالطبع وهذا راجع إلى الثاني فإن الاحسان على هذا الوجه من أقوى أنواع الكمال المحبوب إلا أن المصنف تبع بعض السلف في افراده بالذكر وربما تتركب الأسباب فتقوى المحبة جدا مثل من له ولد عالم صالح جميل محسن إليه وإلى الناس وأقوى ما يمكن أن يفرض من صور التركيب ما يصدق في حقه تعالى ومن ثمة اصطلحوا على تسمية حبه سبحانه عشقا وذلك لأنه المفيض لأصل الوجود لجميع كمالاته ولا كمال حقيقيا إلا له تعالى ولا احسان إلا منه وإن كان الخلق وسايط مسخرين في ايصال بعضه تسخير القلم في يد الكاتب ومن وقع عليه الملك بأنعام يستوفيه فلا يليق أن يحب القلم ويشكره ويعده المنعم المحسن فإن المنعم المحسن هو الملك وإنما هذا القلم آلة من آلات الكتابة لا مدخل له في الانعام وإن حسن حبه من حيث إنه قلم للملك و منسوب إليه ولقد أحسن القائل برد رشاهم كدائي نكته در كار كرد بر سر خوان كه بنشستم خدا رزاق بود وربما تنفرد فتتفاضل مراتب المحبة المسببة عنها والأعلى في هذا المقام المحمود أن يحب الله لذاته فإنها الخالصة الباقية وهو من المواهب الإلهية لا مطمع فيها بالتعمل إلا أن التوغل في العلم والتفكر يرشحان القلب لأن تفاض عليه هذه الموهبة من المبدء الفياض إذ لا بخل فيه وإنما يتوقف الفيض على استعداد المفاض عليه ثم إن يحبه للكمال ثم الاحسان إليه وهذا الترتيب مرعي في سائر المحبات أيضا وإنما كانت المحبة الاحسانية أدنى لما فيها من شوب حض النفس وكونها عرضة للزوال بانقطاع سببها الذي يوشك أن ينقطع وأما الكمالية فإنها تشاركها في الأخير خاصة فإن الصالح قد ينقلب فاسقا والعادل ظالما دون الأول فمن ثم كانت أعلى منها والعلو المطلق لما خلص عن النقصين جميعا وآثارها المحمودة كثيرة والمذكور منها خمسة مترتبة ترتبها في التعشقات الصورية وهي الشوق والأنس والانبساط والقرب والاتصال وربما وربما يستنكر بعض هذه الألفاظ بادئ الرأي إلا أن لها معاني مقبولة قد عبر عنها في الكتاب والسنة بغير هذه بل وبهذه الألفاظ أيضا في بعض الأخبار و الأدعية المأثورة سيما المناجاة الإنجيلية الطويلة المروية عن سيد الساجدين صلوات الله عليه ودعاء عرفة المأثورة عن سيد الشهداء (ع) على أن المناقشة في اللفظ بعد وضوح المعنى ليس من دأب المحصلين وبيان ذلك مختصرا أن الشوق عبارة عن توقان النفس إلى محبوب حاضر من وجه غايب من وجه آخر كمن أنقطع عن معشوقه فإنه يشتاق إليه لأنه غايب عن نظره حاضر في ذهنه فلو طالت المفارقة حتى نسيه وغاب عن ذهنه أيضا فصار غايبا مطلقا لا يتصور أن يشتاق إليه كما لا يتصور أن يشتاق إلى من لم يره أصلا ومن لم يسمع بوصفه مطلقا وكذا لو حضر المعشوق عنده وصار حاضرا مطلقا فإنه لا يبقى شوق حينئذ إلا أنه يمكن أن يكون حضوره على وجه يراه في ظلمة أو من وراء ستر رقيق فإنه يتصور أن يكون مشتاقا إلى زوال تلك الظلمة أو ذلك الستر حتى يدركه على الوجه الأتم الأوضح لأن الحضور في الظلمة أو من وراء الستر لا يخلو عن غيبة ما وكذا يمكن أن يرى وجهه دون شعره أو شعره دون محاسنه أو كلامه أو مشيه فيشتاق إلى أن يحيط بادراكه بحيث لا يغيب عنه من أحواله شئ وفي مقام الشوق يتصور الوجهان جميعا فإن المعارف المنكشفة على المحبين لا تخلو عن شوب خفاء بظلمة الوهم وحجاب الغيب والخلوص عنهما بالكلية مما لا تيسر في دار الدنيا لأحد وإن تيسر أحيانا فلا يبقى و لا يدوم بل هو كالبرق الخاطف كما سبق نظيره وأبقى ما اتفق منه لأكمل الأولين والآخرين صلى الله عليه وآله ما سنح له في ليلة المعراج فأنى يطمع غيره في ذلك أيضا الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف على العارف بعضها والبواقي مستورة عنه مجهولة عنده وهو يعلم وجودها ويتوق إلى معرفتها فلا يزال ينبعث قصده إلى استيضاح ما لم يتضح من المطلوب و استكمال الوضوح فيما اتضح منه اتضاحا ما وينزعج قلبه لذلك ويهيج إليه كما قال (تع) يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وهذا هو الشوق وفي مناجاة داود (ع) أنه شمس خزانة الله سبحانه وهي القلب وإذا غلب عليه الشغف بمطالعة ما حضرة واتضح له من الجمال المكشوف غير ملتفت إلى ما ورائه من ما هو مغيب عنه استبشر القلب بما يلاحظه وسكن إليه وهذا هو الأنس وفي حديث مجاشع أن الطريق إليه الوحشة من النفس وإذا غلب الأنس ودام واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف البعد والحجاب أثمر ذلك نوعا من الخلاعة في الأقوال والأفعال والمناجات مع الله وهذا هو الانبساط وقد يكون منكرا بحسب الصورة لما فيه من رائحة الجرأة وقلة الهيبة وسوء الأدب ولكنه محتمل ممن أقيم مقام الأنس كقول موسى (ع) إن هي إلا فتنتك ومن لم يقم في ذلك المقام وأحب التشبه بهم في الفعل والكلام أدب على ذلك وغلظ عليه بما يليق كما غلظ على يونس (ع) لما أقيم مقام القبض والهيبة فأدب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث إلى أن نادى سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين ونهى نبينا صلى الله عليه وآله أن يقتدي به فقيل له واصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم والجالس على بساط الانبساط موف بما سبق في الأزل من العهد القديم الذي بينه وبين الحق سبحانه في قوله ألست بربكم قالوا بلى وهو القرب والطريق إليه التباعد عن النفس كما في الحديث المذكور والقريب يلاحظ وجوده متصلا بالوجود الأحدي يقطع النظر عن تقييد وجوده بعينه واسقاط إضافته إليه فيرى اتصال
(٨٥)