الشخص المعتزل في نفسه وفي وقته وفي خليطه وسائر خصوصياته وعرضها عليه فإن تحققت الفوائد أو أكثرها في حقه وانتفت الآفات أو أكثرها فهي أولى له من المخالطة وإن انعكس انعكس و هو أيضا من الأمر بين الأمرين وحقها نية الاحتراز عن ثوران شر النفس بسبب المخالطة أو تعديه إلى الغير وتعدى شر الغير إليه والاحتراز عن التقصير في رعاية الحقوق فإنها جمة يتعسر ابقاؤها فهي مظنة التقصير والتجرد بكنه الهمة للعبادة ومن أهمها تهذيب الأخلاق والسلوك في طريقه (تع) وعلامة صدقه في هذه النية اجتنابه في عزلته عن كل ما يشوش وقته مثل أن يكثر غشيانه وزيارته ويتحاكى في محضره بأحوال الناس وأراجيف البلد وما الناس مشغولون به فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة أو الفكر من حيث لا يحتسب فوقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض لا بد أن ينبت وتتفرع عروقها وأغصانها ويتداعى بعضها إلى بعض وتثمر الوساوس الشاغلة للقلب العائقة له عن السير إلى وجهته فإنه أما بالمواظبة على ورد وذكر مع حضور قلب وأما بالفكر في جلال الله وصفاته وأفعاله وملكوته وأما بالتأمل في دقايق الأعمال ومفسدات للقلوب وطلب طرق التخلص منها وكل ذلك يستدعي الفراغ وانقطاع الالتفاف إلى ما عداه من الشواغل الواهية وأما الحضور في محاضر الخير نحو الجمعة والجماعة والعيد والحج والزيارة ومجلس العلم وحلقة الذكر فليس بمناف للعزلة بل هو من العبادة المقصودة بها ولا يجوز الترك إلا عند معارضة أمر أفحش منه يتحقق في ضمن الحضور مثل التعرف إلى الطلمة بما يستتبعه من الآفات وكثرة الأتباع والمريدين المحركة لدواعي العجب والرياء حيث لا يجد في نفسه الخلوص عنهما بالكلية ونحو ذلك والأحب حينئذ أن يسكن موضعا يسقطها عنه عملا بظاهر الشرع وباطنه والطريق إليها الاستغراق بالعبادة ظاهرا وباطنا لتصير ذاته محشوة بالفضايل فتطلب الوحدة والخلوة فإنما يطلب الانسان معاشرة الناس إذا كانت نفسه خالية فيجب فحينئذ أن يتكثر بهم ويطرد عن نفسه الوحشة ومن ثم قيل الاستيناس بالناس من علامة الافلاس وعن بعض السالكين قال وجدت في البادية عجوزا حدباء بيدها عكاز فقلت أين تريدين فأشارت بعكازها إلى السماء فقلت أنت وحدك فقالت ويحك هل يوجد مع الله وحدة وقطع الطمع عما في أيدي الناس فإنه الذي يحوج إليهم غالبا وهذا قلع للسبب و ذكر الآفات المذكورة للمخالطة وايثار الخمولة فإنها من مقدماتها أو ضرب منها وقد مر فضلها في كتاب الطهارة وعن أبي عبد الله (ع) صاحب العزلة متحصن بحصن الله ومحرس بحراسته فيا طوبى لمن تفرد به سرا وعلانية وهو يحتاج إلى عشر خصال علم الحق والباطل وتحبب الفقر واختيار الشدة والزهد واغتنام الخلوة والنظر في العواقب ورؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود وترك العجب وكثرة الذكر بلا غفلة فإن الغفلة مصطاد الشيطان ورأس كل بلية وسبب كل حجاب وخلوة البيت عما لا يحتاج إليه في الوقت قال عيسى بن مريم أخزن لسانك لعمارة قلبك وليسعك بيتك وفر من الرياء وفضول معاشك وابك على خطيئتك وفر من الناس فرارك من الأسد والأفعى فإنهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء ثم الق الله متى شئت باب الورد بكسر الواو وهو في الأصل النصيب من الماء والمراد هنا الأعمال التي يوظفه الانسان على نفسه في أوقاته ضبطا لها عن الانتشار وحفظا عن الضياع إنما خلق الانسان للعبادة كما قال (تع) وما خلقت الجن والإنس لا ليعبدون وغايتها تحصيل محبته (تع) له بحيث يكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به كما سبق فينبغي له استغراق الأوقات بالعبادة ظاهرا وباطنا توسعا إلى السعادة التي لا سعادة فوقها وذلك بأن يذكر الله في مجامع أحواله كلها رجاء الفلاح كما قال (تع) في غير موضع من كتابه العزيز اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ففي النهار يشتغل بعد صلاة الفجر إلى الاشراق وهو ساعة طلوع الشمس بالأذكار والأدعية المأثورة عن أهل البيت (ع) أفضل لازما هيئته في الصلاة ومكانه الذي أدى فيه الفرض في المسجد أو غيره إلا أن يخاف في المسجد مداخلة الرياء فيبطل عمله أو التشويش فينقص بسبب ما يفوته من حضور القلب فالأولى حينئذ أن يرجع إلى بيته ويلزم زاوية للخلوة بورده حذرا عن مراءات أهل البيت وتشويشهم وبهذا التفصيل يجمع بين ما يدل على أن العبادة في المسجد أفضل وكذا التعقيب في محل الصلاة وبين ما يدل على أن الاسرار بالتطوعات أفضل ولا يتكلم في أثناء تعقيبه لغير ضرورة فإنه يضر بالتعقيب ما يضر بالصلاة كما عرفت ويشغل بها بعد العصر إلى المغرب كذلك فورد الأمر بالذكر في الوقتين قال الله (تع) واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا على أن المراد بالبكرة أول النهار دون الساعة التالية للاشراق والأصيل آخر النهار وقال سبحانه وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقال عز وجل وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار والعشي أيضا آخر النهار وفي الحديث القدسي يا بن آدم اذكرني بعد الفجر ساعة وبعد العصر ساعة أكفك ما بينهما وعن النبي صلى الله عليه وآله أيما امرء مسلم جلس في مصلاه الذي صلى فيه الفجر يذكر الله حتى تطلع الشمس كان له من الأجر كحاج بيت الله وفي رواية أخرى ستره الله من النار ثم بعد الفراغ من ذلك يشتغل أهل الأشغال الراتبة بأشغالهم فالعالم والمتعلم المتجردان لهما بالعلم النافع وهو علم الآخرة ومقدماته فورد أن طلبه فريضة على كل مسلم وأن الله يحب بغاته وأنه يرجح مداد أهله على دماء الشهداء وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالبيه وأنه أفضل من صلاة ألف ركعة وشهود ألف جنازة وعيادة ألف مريض وقراءة القرآن والمشتغل بأمور الناس كالقاضي والمفتي والوالي ومن يرتبط بهم كالكاتب والقسام والمحتسب والمحاسب أو بأمور نفسه كالكاسب والأجير يشتغل بتلك الأمور ناويا بها القيام بالفرض العيني أو الكفائي وغير ذلك من القصود الممكنة مراعيا شروطها المعتبرة في الشرع ذاكرا لله (تع) بقلبه في أثنائها
(٣٣٥)