في المصائب الدنيوية أما الصبر فظاهر وأما الشكر فعلى وجوه ستة أحدها أن لا يصيبه والصواب لم يصبه أكبر منها إذ كل مصيبة وإن كانت عظيمة يتصور ما هو أكبر منها فإن مقدورات الله (تع) غير متناهية فلو ضعفها الله وزاد عليه ماذا كان يردها ويحجزه فليشكر على عدم الزيادة وثانيها أن لا تكون في الدين ومصائب الدنيا مما يتسلى عنها بأسباب تهونها بخلاف مصائب الدين إذ لا سبيل إلى تخفيفها والسلوة عنها وعن سهل التستري أنه قال له رجل دخل اللص بيتي وأخذ جميع متاعي فقال اشكر الله لو دخل الشيطان قلبك وأفسد التوحيد ما إذا كنت تصنع وهذا يمكن ادراجه في الأول وثالثها أن تعجل عقوبته في الدنيا ولا تدخر للآخرة ففي المستفيضة من الطريقين أن نكبات الدنيا ومصائبها كفارات الذنوب وأن المؤمن إذا أذنب ذنبا فأصابه شدة أو بلاء فالله أكرم من أن يعاقبه مرة أخرى ورابعها أنها كانت مكتوبة عليه آتية لا محالة ففرغ منها واستراح بقية عمره وخامسها أن ثوابها خير له مما فاته بها وعن أبي عبد الله (ع) لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمني أنه قرض بالمقاريض وسادسها أنها تنقص من القلب حب الدنيا فإن مواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأنسه بها فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقتها وإذا أفلقته المصائب انزعج قلبه عنها ولم يسكن إليها بل صارت كالسجن عليه يحب الخلاص عنها والخروج منها ومن ثم ورد الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فهي في التحقيق نعم تستحق أن تشكر إذ لا تخلو عن تكفير الخطيئة أو رياضة النفس أو رفع الدرجة فهي نظير مؤاخذة الصبي وتعذيبه بالتأديب والتعليم وكسر المعازف والملاهي وأسباب اللعب استصلاحا لحاله وترشيحا له لمراتب الكمال باب الرجاء والخوف و يجمعهما تناسب التضاد وكلاهما توسط بين اليأس والأمن إلا أن الرجاء تفريطه اليأس وافراطه الأمن والخوف بالعكس كما مر ومن ثم حسن ايرادهما في باب واحد وهما خاطران يردان على القلب من دون تعمل للعبد فيهما فلا تكليف إلا في مقدماتهما وهي الأسباب الموصلة إليهما وكلما خطر بالبال من مكروه أو محبوب فإما أن يكون موجودا فيما مضى من الزمان ويسمى الذكر والتذكر أو في الحال ويسمى الوجد والذوق أو في المستقبل ويسمى الانتظار والتوقع فإن كان محبوبا عنده حصل من انتظاره وتعلق القلب به واخطار وجوده بالبال نشاط وفرح وهو الرجاء فإن كان مكروها حصل منه انقباض وغم وهو الخوف فالرجاء والخوف مبنيان على انتظار ما يستقبل فالمستغرق بذكره (تع) المشاهد لجمال الحق على الدوام يفقدهما لكونه ابن الوقت الحاضر لا التفات له إلى المستقبل لشغفه بوجده وذوقه قال صاحب الاصطلاحات الوقت ما حضرك في الحال فإن كان من تصريف الحق فعليك الرضا والاستسلام حتى تكون بحكم الوقت لا تخطر ببالك غيره وإن كان مما يتعلق بكسبك فالزم ما أهمك فيه لا تعلق بالك بالماضي والمستقبل فإن تدارك الماضي تضييع للوقت وكذا الفكر فيما يستقبل فإنه عسى أن لا تبلغه وقد فاتك الوقت ولذا قيل الصوفي ابن الوقت وفي كلام المولوي صوفي ابن الوقت بأشد أي رفيق نيست فردا كفتن از شرط طريق فابن الوقت ليس له خوف ولا رجاء بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمانان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها وإلى هذا أشار من قال إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقي فضلة لرجاء ولا خوف وبالجملة فالعاشق الفائز بمواصلة المعشوق قد بلغ منتهى أمله ولم يبق له رجاء وراء ذلك ولا شعور بالفراق حتى يخاف منه ومن هنا قيل إن المحب إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في الشهود وإنما دوام الشهود غاية المقامات ولكن كلامنا في أوائلها فالرجاء الفرح لانتظار محبوب متوقع وذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب فإن حصل أكثر أسبابه يقينا فالأصدق عليه اسم الرجاء المحمود كتوقع الخير يوم الحصاد فمن ألقى بذرا جيدا في أرض صالحة نقاها من الأشواك والأعشاب المفسدة وكرى أنهارها حتى يصلها الماء ثم جلس منتظرا من فضل الله دفع الآفات والصواعق إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته فرجاء العبد المغفرة أشبه شئ برجاء صاحب الزرع وأن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والايمان كالبذر والأخلاق الصالحة والطاعات جارية مجرى تنقية الأرض واصلاحها وحفر الأنهار وسياقة الماء إليها والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمي فيها البذر و يوم القيامة يوم الحصاد فلا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمي زرع إلا من بذر الايمان وقلما ينفع ايمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه كما لا ينمي بذر في أرض سبخة وإن فقد أكثر أسبابه يقينا فهو من الرجاء المذموم وإلا صدق اسم الغرور والحماقة كما لو ألقى بذره في أرض غير صالحة لا تصلها الماء يقينا وإن شك فيها فإلا صدق اسم التمني كما إذا صلحت الأرض ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا فإذن اسم الرجاء لا يصدق إلا على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما لا يدخل تحت اختياره وهو فضل الله بصرف القواطع والمفسدات وورد في ذلك قوله (تع) إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله وقوله عز وجل فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وفي الحديث النبوي الأحمق من اتبع نفسه هويها وتمنى على الله وعن أبي عبد الله (ع) أنه قيل له إن قوما من مواليك يلمون المعاصي ويقولون نرجو فقال كذبوا ليسوا لنا بموال أولئك قوم ترجحت بهم الأماني من رجا شيئا عمل له ومن خاف شيئا هرب منه وعنه (ع) لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو والرجاء مما لا بد منه لكل مكلف
(٦٨)