في النبوي لكن مورده جنازة المشرك باب العزلة بضم الفاء وسكون العين وهي الانقطاع عن الناس والمراد بها ما يقابل المعاشرة العامة والاختلاف في ترجيح الراجح منها ومن المخالطة كالاختلاف فيه من النكاح والعزوبة والقول للقول وجدواها إما التحلي بخيرات لا يتيسر تحصيلها إلا بالخلوة أو التخلي عن شرور يتعرض لها بالمخالطة وكل منهما إما دينية أو دنيوية فهذه أربعة أقسام هي مجامع ما ذكره المصنف وغيره من فوائدها منها الفراغ للعبادة والفكر والاستيناس بمناجاة الله و استكشاف أسراره في ملكوت السماوات والأرض وآيات الآفاق والأنفس فإن ذلك يستدعي فراغا ولا فراغ مع المعاشرة فالخلق شاغلون ومن ثم كان رسول الله صلى الله عليه وآله في ابتداء أمره يعتزل في جبل حراء من جبال مكة حتى قوى فيه نور النبوة وصار بحيث لا يحجبه الخلق عن الله فإن الجمع بين معاشرة الخلق ظاهرا والاقبال على الله باطنا متعذر إلا لمن استغرق باطنه به تعالى بحيث لا يبقى لغيره فيه متسع فغاب عنهم قلبا وشهدهم لسانه وهم الذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى كما سلف ومنها الخلاص عن المعاصي التي يتعرض لها بالمعاشرة ولا يسلم عنها إلا بالعزلة كالرياء فقد عرفت أنه أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء وكل من خالط الناس داراهم ومن داراهم راءاهم ووقع فيما وقعوا وأقل ما يلزم فيه النفاق فإن الخصومات بين الناس كثيرة فأنت لا تنفك عن مخالطة متخاصمين فإن لم تلق كلا منهما بوجه يوافقه صرت بغيظا إليهما وإن جاملتهما جميعا كنت ذا وجهين وقد علمت قريبا حاله وأقل ما يعتاد في المخالطة إظهار الشوق والمبالغة فيه ولا يخلو ذلك عن كذب أما في الأصل وأما في الزيادة واظهار الشفقة بالسؤول عن الأحوال فقولك كيف أنت وكيف أهلك وأنت في الباطن فارغ القلب من همومه نفاق محض ومن آية ذلك أنك ترى هذا يقول كيف أنت ويقول الآخر كيف أنت فالسائل لا ينتظر الجواب والمسؤول يشتغل بالسؤول ولا يجيب وذلك لمعرفتهم بأن ذلك صادر عن رياء لا عن حقيقة والغيبة فإن من الأعراض العامة التمضمض بالأعراض والتفكه بلحوم الناس وإن وافقت المعاشرين تعرضت لسخط الله وإن سكت شريكا والمستمع أحد المغتابين وإن أنكرت أبغضوك واستنقلوك وتركوا أذاك ووقعوا فيك ومزقوا اهابك وضيعوا حقك وحق الله فيك فإما أن تستوجب السخط بهم أو يستوجبوا السخط بك ومنها الخلاص من غوائل البدع والمناكير الغالبة فإنه إن تشمر لرفعها أعياه ذلك وفتح عليه أبوابا من الضرر بما يجره طلب الخلاص منها إلى معاصي أكثر وأكبر مما نهى عنه ابتداء ومن جرب النهي عن البدع ندم عليه غالبا فإنه كجدار مايل يريد الانسان أن يقيمه فيوشك أن يسقط عليه فإذا سقط عليه يقول ليتني تركته مائلا نعم لو وجد أعوانا يمسكون الحايط حتى يحكمه بدعامة استقام وأنت اليوم لا تجد الأعوان والخطر عليك شديد وإن تغافل عنها واستمر على مشاهدتها والاغضاء عنها هان أمرها عليه وزال وقعها في قلبه واستعظامها عنده فهي تورث الاستحقار وكلما كثرت وطالت كثر وقوي حتى يوشك أن تنحل القوة الوازعة ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغاير من نفسه كما أن الناظر إلى الأغنياء يستحقر نعمة الله على نفسه ومنها الخلاص عن الجليس السوء فإن مسارقة الطبع لما يشاهده من أخلاق الناس وأعمالهم مما لا سبيل إلى انكاره وورد في النبوي مثل الجليس السوء كمثل القين إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه ومثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك ألا يهب لك منه تجد ريحه ومنها الخلاص عن الفتن والخصومات وصيانة النفس والدين عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها وقل ما يخلو الناس عنها ولا سلامة إلا بالاعتزال عنهم فورد عن النبي صلى الله عليه وآله ألزم بيتك وأملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة حين ذكر الفتنة ووصفها وقال إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وضعفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه فقيل ماذا تأمرني في زمان الفتن يا رسول الله والقائل عبد الله بن عمرو بن العاص ومنها الخلاص عن شر الناس وايذائهم بنحو الغيبة والنميمة والتهمة و البهتان والحسد وطمعهم ما يتعسر الوفاء به فرعاية الحقوق شديدة وأيسرها التسليم والترحيب وزيارة الإخوان وعيادة المرضى وحضور الجنائز والولائم وفيها ضياع الأوقات وفوات المهمات وربما يعوق عن بعضها عائق ويستقبل فيها عذر ولا يمكن إظهار كل الأعذار فينفتح باب الملال و العتاب وأنك قمت بحق فلان ولم تقم بحقي وينشأ منه ضروب العداوة والأذية ومن زعم الناس كلهم بالحرمان سكتوا عنه وانقطع طمعهم منه وسلم من ذلك وكذا قطع الطمع عنهم فالنظر إلى زهرات الدنيا يحرك رغبة الحريص فيتحرك للطلب ولا يقع إلا على الخيبة والحرمان في أكثر الأطماع فيتألم قلبه و ينطلق لسانه بالوقيعة فيهم بما عرفت من أنواع الهذر ومهما اعتزل لم يشاهد فلم يرغب ومنها الخلاص عن لقاء الثقيل والأحمق وغير المجانس ومقاساة خلقهم وأخلاقهم فهو من أشد البلايا على الروح وورد أنه لما غضب سليمان (ع) على الهدهد وحلف ليعذبنه عذابا شديدا حبسه مع البومة فكان ذلك عذابه الشديد والوجه في التأذي بصحبة الأحمق وغير المجانس ظاهر وأما الثقيل فإن كان بسبب رداءة ظاهرة أو باطنة فكذلك أيضا وإلا كما يشاهد كثيرا فلعله تناكر الأرواح ومن ثم ترى من تستثقله أنت وتتبرم عن مؤالفته يستخفه غيرك ويرغب إليه وسئل بعض الحكماء ما بال الحمل الثقيل لا يتأذى به الانسان تأذيه عن الصاحب الثقيل فأجاب بأن الحمل الثقيل يتعاون في تحمله الروح والجسد فيخف على كل منهما وأما الصاحب الثقيل فيستقل بتحمله الروح فمن ثم يكون تأذيه به أكثر فهذه فوايد العزلة ومرجعها جميعا إلى الخلاص عن آفات المخالطة وأما آفاتها فهي أيضا أمور دينية ودنيوية ومرجعها جميعا إلى فوات فوايد المخالطة والمذكور منها ست التعلم والتعليم والانتفاع
(٣٣٣)