الصوفية الفناء في التوحيد فإنه من حيث لا يرى إلا واحدا لا يرى نفسه أيضا ويقال إن القائل ليس في جبتي سوى الله إنما عنى هذه المرتبة من التوحيد إذ نفى نفسه وأثبت ربه كما قال القائل انرا كه فنا شيوه وفقرايين است ني كشف ويقين نه معرفت ني دين است رفت أو زميان همه خدا ماند خدا الفقر إذا تم هو الله أين است وبهذا يفرق بينه وبين من قال إنا ربكم الأعلى وما علمت لكم من إله غيري إذا ثبت هذا نفسه و نفى ربه واستيفاء القول في هذه المرتبة مما لا يهم في المطلوب إذ هي فوق التوكل والمرتبط بالتوكل إنما هو ما قبلها كما مر فمن أيقن أنه لا فاعل إلا الله وأن كل ما هو موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحياه و موت وغنى وفقر إلى غير ذلك فالمتفرد بابداعه واختراعه هو الله وحده لا شريك له كان منه خوفه وإليه رجاؤه وبه ثقته وعليه اتكاله من غير نظر ولا التفات إلى غيره والالتفات إلى الغير يكون لأحد سببين أما لضعف اليقين بالتوحيد المذكور بحيث لا يقوى على رفعه بالكلية أما لتطرق الشك بسبب ما يشاهد من الأغيار من أفعالهم الاختيارية فيختلج بالبال أنه كيف يكون الكل من الله وهذا الانسان يعطيك رزقك باختياره فإن شاء أعطاك وإن شاء منعك وهذا قادر عليك إن شاء قتلك وإن شاء عفى عنك ونحو ذلك وهذا إشارة إلى وجود المانع أو عدم غلبة اليقين بحيث يثبت له الاستيلاء على القلب وهذا إشارة إلى نقص المقتضي وهما يكونان غالبا في بداية الحال قبل تمام التحصيل ويرجى زوالهما بالرياضة والاستكمال وأما للضعف الجبلي والخور الفطري في القلب بسبب الأوهام الغالبة عليه بحيث لا يرجى اصلاح حاله وإن بولغ في رياضته وتكميله ما بولغ فإن القلب قد ينزعج تبعا للوهم وطاعة له من غير نقصان في اليقين كالجبان مطيع الوهم فإنه ربما لا يطيق البيتوتة في بيت خال وثيق الأغلال مع يقينه بأنه لا عدو ثمة أو في بيت فيه ميت مع يقينه بأنه جماد لا حراك به وعدم نفرته عن سائر الجمادات فالتوكل لا يتم إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعا إذ بهما يحصل سكون القلب و طمأنينته وكم من يقين لا طمأنينة معه كما قال سبحانه لخليله أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فالتمس أن يشاهد احياء الميت بعينه ليثبت اليقين في خياله فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في أوائل الحال وإنما تصير مطمئنة في أواخرها وأدنى رتب التوكل أن يعتمد المتوكل على الله اعتماد الموكل على الوكيل الذي يختاره لكفاية مهم من مهماته عنه فإنه لا يستريح إليه إلا بعد الوثوق لشفقته لتكون باعثة له على بذل كل المجهود في نصرته ورعايته وقدرته على انجاح ذلك المهم على وجه تقتضيه مصلحة الحال بحيث لا يمنعه جبن ولا حياء أو صارف أخر من الصوارف المضعفة للقلب عن إقامة المصلحة والاصرار عليها وعلمه بمواقع الصلاح والفساد حتى لا يخفى عليه من غوامض الأمر الموكل فيه شئ أصلا لئلا يغلبه الخصم بالتلبيس أو يخبط هو بجهله فإذا أيقن الموكل بهذه الخصال الثلاث في وكيله قوى وكوله عليه ومهما شك في شئ منها أو ضعف يقينه به ضعف الوكول وقل الاعتماد واضطربت النفس على حسبه وهذا بعينه حال المتوكل في قوة يقينه أو ضعفه بعلمه (تع) وقدرته وعنايته بعباده واختلاف توكله قوة وضعفا بحسب ذلك ثم إن يعتمد عليه اعتماد الطفل الصغير على الأم فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها فإن رآها تعلق بذيلها وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه وخاطرة ذكرها فإنها مفزعة أو وثق بكفالتها وكفايتها وشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع ادراك بالتميز الذي له ولو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلفيق لفظها ولا على احضارها مفصلة في ذهنه فمن كان تألهه إلى الله ونظره إليه كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلا وهذه تفارق الأولى بوجهين أحدهما عدم الالتفات إلى الاعتماد فإن هذا المتوكل قد فنى في توكله عن توكله فلا التفات له إلا إلى المتوكل عليه فقط استغراقا به عن غيره كاستغراق الصبي بالأم بخلاف الأول فإن له التفاتا إلى توكله وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده والآخر ترك التدبير فإن الصبي لا يرى لنفسه مع الأم مصلحة بل مفوض أمره كله إليها وأما الموكل فإنه ربما يشير على الوكيل ويعرفه وجوه المصالح ويأمره بالتحفظ عليها ثم إن يكون بين يدي الله في حركاته وسكناته كالميت بين يدي الغسال لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتا وتحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغاسل الميت وهو الذي قوى يقينه بأنه (تع) مجري الحركة والقدرة والعلم والإرادة وسائر الصفات فيكون عين الانتظار لما يجري عليه وهذه تفارق الثانية بترك الالتفات مطلقا فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها والميت لا حراك به بل مثال هذا مثال صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه وإن لم يتعلق بذيلها فهي تحمله وإن لم يسأل اللبن فهي تفاتحه وتسقيه وهذه المرتبة من التوكل تثمر ترك الدعاء والسؤال ثقة منه بكرمه (تع) وعنايته وهي أندر وقوعا من الأولتين وأقل بقاء منهما لأن حصول اليقين المؤدي إليها نادر جدا وإذا حصل كان كالبرق الخاطف لا مطمع في دوامه فهي تشبه صفرة الوجل وحمرة الخجل ثم الثانية فهي كصفرة المحموم قد تدوم يوما أو يومين ثم الأولى فهي كصفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم ولا يبعد أن يزول وعن سهل أنه سئل عن التوكل ما أدناه قال ترك الأماني قيل ما وسطه قال ترك الاختيار قيل فما أعلاه فلم يذكره قال لا يعرفه إلا من بلغ أوسطه إشارة إلى عزة مثالها وبعدها عن الأفهام العامية لندرة وقوعها وعدم أنسهم بها و جداوة حبه (تع) كما قال عز من قائل إن الله يحب المتوكلين وكمال الايمان كما قال وعلى الله توكلوا إن كنتم مؤمنين والتفرغ للعبادة بالاعراض عن الالتفات إلى ما يشغل عنها وكفايته (تع) فعن أبي عبد الله (ع) من أعطى التوكل أعطى الكفاية ثم قال أتلوت كتاب الله عز وجل ومن يتوكل على الله فهو حسبه وعن النبي صلى الله عليه وآله لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا أي تخرج جياعا وتعود شباعا والطريق إليه في باب الرزق والكسب أن يعلم أمورا بالنظر في مقدماتها أحدها أن المقدر المقسوم في علم الله الأزلي لا يتغير بعلاجات المخلوقين وتدبيراتهم مما لم يثبت أن لها مدخلا في البدا فلا يترتب عليه فائدة والثاني
(٨١)