من محل الفتنة والهرج إلى محل النظام ومن محل القحط إلى محل الرخص ولا حرج فيهما فقد كان من عادة السلف مفارقة الوطن خيفة الفتن وعن بعضهم إذا بلغك أن قرية فيها رخص فاقصدها فإنه أسلم لدينك وأقل لهمك وفي التنزيل ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة بل ربما يجب الفرار في بعض المواضع ويستحب في بعض بحسب وجوب ما يترتب عليه من الجدوى واستحبابه وكذا عن سائر الأحوال المبغوضة كالخوف والكساد والمهانة ونحوها إلا عن الطاعون فإنه منهي عنه بخصوصه في روايات أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله إن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم ثم بقي بعد في الأرض فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به في أرض فلا يقدمن عليه ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه وفي رواية عايشة قال رسول الله صلى الله عليه وآله إن من فناء أمتي بالطعن والطاعون فقلت هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون قال غدة كغدة البعير تأخذهم في مراقهم المسلم الميت فيه شهيد و المقيم عليه المحتسب كالمرابط في سبيل الله والفار منه كالفار من الزحف وعن أم أيمن قالت في وصية رسول الله صلى الله عليه وآله لبعض أهل بيته إن أصاب الناس موتان وأنت فيهم فأثبت فيهم والمصنف اقتفى في التعويل على هذه الروايات أثر أبي حامد إلا أنه مصرح بالكراهة وتخطى بعض أصحابنا إلى التحريم وزاد بعضهم فامتنع عن الصلاة على الميت الفار منه وهو افراط بإزاء تفريط من أوجب الفرار والعدل في ذلك العمل بما رواه الصدوق في معاني الأخبار في الصحيح عن أبان الأحمر قال سأل بعض أصحابنا أبا الحسن (ع) عن الطاعون يقع في بلدة وأنا فيها أتحول عنها قال نعم قال ففي القرية وأنا فيها أتحول عنها قال نعم قال ففي الدار وأنا فيها أتحول عنها قال نعم قلت فإنا نتحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله إنما قال هذا في قوم كانوا يكونون في الثغور في نحو العدو فيقع الطاعون فيخلون أماكنهم ويفرون منها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك فيهم وفي العلل في الحسن عن علي بن المغيرة قال قلت لأبي عبد الله (ع) القوم يكونون في البلد يقع فيها الموت ألهم أن يتحولوا عنها إلى غيرها قال نعم قلت بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله عاب قوما بذلك فقال إن أولئك كانوا ربيئة بإزاء العدو فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن يثبتوا في موضعهم ولا يتحولوا منه إلى غيره فلما وقع فيهم الموت تحولوا من ذلك المكان إلى غيره فكان تحويلهم من ذلك المكان إلى غيره كالفرار من الزحف وما رواه ثقة الاسلام في الصحيح أو الحسن عن الحلبي قال سألت أبا عبد الله (ع) عن الوباء يكون في ناحية المصر فيتحول الرجل إلى ناحية أخرى أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره فقال لا بأس إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك لمكان ربيئة كانت بحيال العدو فوقعت فيهم الوباء فهربوا منه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله الفار منه كالفار من الزحف كراهية أن تخلو مراكزهم وروى علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع) قال سألته عن الوباء يقع في الأرض هل يصلح للرجل أن يهرب منه قال يهرب منه ما لم يقع في مسجده الذي فيه فإذا وقع في أهل مسجده الذي يصلي فيه فلا يصلح الهرب منه وكأنه الذي رواه الصدوق بعد حديث الأحمر مرسلا ومن العجب قول الموجب إن هذه الأخبار تضمنت الأمر بالفرار من الطاعون والأمر للوجوب عند المحققين على أن القرائن ظاهرة في الدلالة عليه إن لم نقل بدلالة الأمر عليه وأما الندب فلا كلام في الدلالة عليه انتهى فإنها خالية عن لفظ الأمر ومعناه صريحا وفحوى بل لو كانت مشتملة على أمر لكان ظاهره الإباحة دون الوجوب والندب ثم استدل بقوله (تع) ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وفحوى قوله صلى الله عليه وآله فر من المجزوم فرارك من الأسد ولا يورد ممرض على مصح وفيها من القصور ما لا يخفى وأما القدوم عليه فلا يبعد تحريمه للنهي عنه في حديث أسامة لو صح والآية لو شملته ويأتي والطلب كطلب المال للتوسع والرفاهية وحسن الحال مباحا كان أو مكروها وقد اختلفت الأنظار في ترجيح الراجح من السفر والإقامة اختلافها في أمر العزلة والخلطة والقول القول فإن السفر ضرب من الخلطة مع زيادة تعب يفرق الهم ويشتت القلب في حق الأكثرين والراجح هو الأصلح بحال الشخص الأعون له على دينه بحسب ما يفرض فيه من الجدوى والآفة والمعين غالبا في البداية السفر للتعلم فإنه فيه أسهل وأكثر من بلغنا أحوالهم من كبراء الدين من صدر الاسلام إلى عصرنا هذا فإنما قضوا أيام شبابهم في الأسفار وظفروا بما ظفروا في الغربة إذ كانت قلوبهم خالية متمحضة للتحصيل ومنهم المصنف طاب ثراه فإنه سافر من بلده إلى السيد ماجد الصادقي بشيراز واشتغل عليه ثم على المولى صدر الدين الشيرازي بجميع الفنون العقلية والنقلية العلمية والعملية ولم يرجع إلى وطنه إلا بعد أن برز وفاق وطار ذكره في الآفاق وحدثني والدي عن جدي وكان خصيصا به جدا أنه لما استأذن والده في السفر توقف أولا في إذنه لحداثة سنه إذ ذاك ثم استخار بالقرآن فجاءت الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ثم بالديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين (ع) فجاءت الأبيات تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد ولقد حاز الفوائد الخمس بأسرها فالجة بها قداحه فائضة أقداحه وفي النهاية الإقامة للعمل فإنه لا يتأتى في السفر غالبا ففيه شواغل من انصراف الهم والفكر والنظر والشوق إلى المألوفات المفارقة وحفظ النفس والمتاع المستصحب عن الأخطار المشارفة في السفر و احتمال الشدايد بالبدن والهموم بالقلب في الحل والرحال والسير والسهر وتعسر الأمور ومقاساة
(٣٣٩)