والنفع والتأدب والتأديب والموانسة ومناولة الثواب والتجارب على اطلاق في بعضها وتفصيل في آخر أما التعلم فهو مقدم على العزلة لافتقار العبادة والتقوى المستفرغ لهما بها إليه فإن الانسان مطبوع على الجهل ولا يستفيد العلم إلا بالمخالطة والتردد إلى مجالس المعلمين والمذاكرين والجاهل المعتزل كالمريض إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب فإنه جدير بأن يتضاعف عليه المرض وقد سلف أن العمل بغير علم ضلال وأن العامل على غير بصيرة كالساير على غير الطريق لا يزيده كثرة السير إلا بعدا ومن ثم قيل تفقه ثم اعتزل وأما التعليم فهو أولى من العزلة أيضا إن كان في علم الآخرة دون الدنيا وقد عرفتهما في المقدمة ورعى حقه تعالى فيه بالاحتراز عن الذمايم كالرياء وحب الجاه والاستيكال بالعلم والمباهاة به ونحو ذلك مما سلف فإن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء هم المرشدون الذين ينتفع الناس بعلومهم ولا مرتبة فوقها بل ربما يجب نشر العلم وبثه فتجب المخالطة من باب المقدمة فورد في التنزيل أن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وعن النبي صلى الله عليه وآله من كتم علما نافعا ألجم بلجام من نار وفي حديث آخر إذا ظهرت الفتن وسكت العالم فعليه لعنة الله والعالم الغير المنتفع به كالمصباح المتوقد في بيت مغلق يحترق عبثا هذا كله بالشرطين وإلا فالعزلة أولى سواء كان في علم الدنيا أو في علم الآخرة مع عدم رعاية حقوق الله فيه فإنه حينئذ يلتحق بعلم الدنيا كما في زماننا هذا لذهاب علم الآخرة فإنك لا ترى مستفيدا يطلب فائدة لدينه أو يتسائل عن مسألة تنفعه في تهذيب أخلاقه واصلاح باطنه وتقربه إلى ربه وافحامه لشيطانه أو يصغى إلى حديث يزهده في الدنيا ويرغبه إلى الآخرة وإنما أقصى هممهم تعاطي بعض مسائل الفقه والخطابة ليتوسلوا به إلى اجتلاب العوام ويكون إليهم المرجع في العقود والايقاعات والأحكام وولاية أموال الغيب والسفهاء والأيتام ولو التفت أحدهم نادرا إلى شئ من علم الآخرة فإنما هو للتوسع في العلم إذ علموا أن العلم بكل شئ خير من الجهل به دون العمل عليه والتقيد به وقد استولت الذمايم على الطباع وصارت رينا بحيث آل الأمر إلى تعذر الاحتراز عنها ورعاية الحقوق ولم يبق لعلم الآخرة لو صودف قائم به وقع في النفوس ولا تأثير في القلوب بل تحديثهم به فتنة لهم بها يزيد موج الفتن وتنفتح أبواب الشين وسوء الظن وفوات النفع والانتفاع بالعزلة ظاهر لكنه لا يعد آفة مطلقا وتفصيله أن الانتفاع من الغير إما أن يكون بالكسب الطيب كالتجارة والصناعة أو غيره كالسؤول والكاسب إما محتاج يكسب للكفاية أو معه ما يكتفي به لو قنع وإنما يطلب الزيادة والأخير إما غرضه الادخار أو التوسع في فضول العيش أو الصدقة على المحتاجين ثم شأنه في عزلته إما الاشتغال بالأعمال البدنية كنوافل الصلوات وتلاوة القرآن والأوراد والأدعية أو الأعمال السرية كالذكر والفكر والنظر في ملكوت السماوات و الأرض والسير من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وجملة القول فيها أن العزلة مرجوحة لطالب الكفاية مطلقا راجحة لطالب الادخار والتوسع كذلك وأما طالب الصدقة فإن كان كسبه طيبا وهو من أصل الأعمال الظاهرة فالعزلة المفوتة للاكتساب آفة في حقه فهو أولى من عمل الظاهر المقصود بالعزلة وإلا فآفته المخالطة وهو حكم النفع بالمال ومثله النفع بالبدن فإن النهوض بقضاء حوائج المسلمين على الوجه المحمود حسنة فوق عمل الظاهر ودون عمل الباطن وفسر التأدب بالارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفوس وقهرا لشهواتها ورعوناتها وهو من الملكات المستفادة بالمخالطة وتفضل على العزلة في البداية لمن لم تتهذب بعد أخلاقه ولم يبلغ أشده كالتعلم والتأديب بالرياضة وهو كالتعليم ويتطرق إليه من دقايق الآفات وما يتطرق إليه إلا أن مخائل طلب الدنيا من طلبه الارتياض أبعد منها من طلبه العلم ومن ثم ترى فيهم قلة وفي طلبة العلم كثرة وأما المؤانسة على الوجه المباح في الشريعة فهي مستحبة إذا كانت لقطع الملالة المنفرة للنفس عن العبادة فإنها إذا أكرهت عميت ومهما كانت في الوحدة وحشة وفي المجالسة أنس يروح القلب فهي أولى إذ الرفق في العبادة من الحزم في العبادة وورد في الخبر إن الدين متين فأوغلوا فيه برفق فلا يستغني المعتزل إذن عن رفيق يستأنس به ولو ساعة من النهار ولكن ليجتهد في طلب جليس صالح لا من يفسد عليه في تلك الساعة الواحدة سائر ساعاته ومناولة الثواب هي نيل ثواب الحسنات التي لا تتقوم بالواحد مثل إقامة الجمعة والجماعة والعيدين ونحوها وقضاء حقوق الإخوان كالعيادة والتشييع والتواضع والتبرك بزيارتهم فإنها جميعا ملزومة للمخالطة أو هي هي بعينها والمعتزل لا ينالها ولا ينالها أحد من جهته وكذا التجارب فإنه لا تستفاد إلا من جهة الناس ومعاشرتهم في مجاري أحوالهم ويتعلق بها كثير من مصالح الدارين لا سبيل إلى معرفتها إلا بها لقصور العقل الغريزي عن ادراكها والغمر الذي لم تحنكه التجارب لا خير في عزلته كالجاهل بل ينبغي تقديم شطر منها كالتعلم وتحصل بقيتها بسماع الأحوال ومن أهم التجارب أن يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة فإن كل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا ونفسه لم يترشح منه خبثه وهذه الصفات مهلكات يجب قلعها عن النفس ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها ومثاله مثل دمل ممتل بالقيح والمدة وقد لا يحس صاحبه بألمه ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإذا لم يكن معه من يمسه ويحركه ربما ظن بنفسه السلامة وإذا أصيب أو حرك بمشرط حجام انفجر وفار منه القيح المحتقن فيه فالقلب إنما ينفجر منه خبائثه إذا حرك أو أصيب وهما من خصايص المخالطة فهذه مجامع فوائدها وفوائد العزلة وآفات كل منهما وبسبب تعارضها لا يصح ترجيح إحديهما على الأخرى بالاطلاق بل ينبغي اعتبار حال
(٣٣٤)