وذلك لما عرفت غير مرة أن المفهوم العرفي والعقلائي من كل عنوان وطبيعة إنما هو واقع تلك الطبيعة، الذي لا محل له إلا الخارج، ولا واقع له إلا الموجود الذي يترتب عليه جميع لوازم تلك الطبيعة، فإذا قيل: " كل نار حارة " فالمفهوم من النار كالمفهوم من الحار ليس إلا ذلك المصداق الملتهب المحرق، وذلك الذي فيه حرارة بالفعل، وقد حكم المتكلم بتلك القضية أن جميع ما يكون نارا في الخارج والعين فهو ذو حرارة فعلية، فغاية الأمر أن الله تعالى قد جعل النفس قادرة على التوجه والالتفات إلى جميع المصاديق التي يشملها قولنا: " كل نار "، والحكم على كل منها بأنها ذات حرارة بالفعل، سواء فيه الموجود حين إنشاء الحكم والمعدوم حينه، فالمحكوم عليه هو النار الخارجية العينية، والمحكوم به أيضا هو ذو الحرارة الخارجية العينية، وما دام ليس من النار والموضوع أثر فلا أثر من الحرارة والمحمول.
وفي قولنا: " حرمت عليكم الخمر " فما دام ليس لنا خمر فليس هنا حرمة فعلية، فإذا صار العصير خمرا فقد وجد مصداق لتلك الطبيعة، ولا محالة تنطبق عليه الحرمة، وفرض أن جميع مصاديقها موجودة حين الحكم، والحكم على تلك الأفراد المفروضة تجشم غير واقعي يكذبه الوجدان، فإن المحكوم عليه ليس إلا واقع الخمر والمصداق الحقيقي لا المصاديق الفرضية، فإن الفرض خيال، والخيال يتبعه الخيال، وللواقع مجال آخر، كما أن إضمار قضية شرطية أيضا إلتزام غير لازم وخلاف الواقع.
ومع ذلك كله فقد مر منا: أن حرمة الخمر بمفهومها الوسيع الكلي أحد القوانين الإسلامية، ولها وجود اعتباري يناسب وجود القوانين وإن لم يكن في الخارج مصداق من الخمر أصلا، فهذا القانون الكلي قابل للاستصحاب إذا شك في بقائه وارتفاعه. فالحرمة الفعلية وإن توقفت على المصداق الفعلي إلا أن ذلك لا ينافي أن يكون لنفس حرمة الخمر في قالب مفاد القضية الحقيقية أيضا وجود قانوني قابل للبقاء أو الارتفاع، ومحكوم بالبقاء إذا شك في نسخه بحكم الاستصحاب.