أقول: إن ما أفاده في ما نحن فيه حق، وذلك أن قوام باب التزاحم بأن المزاحم - بالفتح - واجد في نفسه لجميع ما هو دخيل في فعلية حكمه، إلا أن حكمه لا يصير فعليا لمجرد ابتلائه بالمزاحم، كما هو واضح بأدنى تأمل في مزاحمة انقاذ الغريق بواجب أهم، فإن الإنقاذ لا يتصف بالوجوب، لا لنقص في مبادي وملاكات ايجابه، بل لمجرد أن هناك واجبا أهم، وفي ما نحن فيه الأمر كذلك، فإن تمام الدخيل في محكومية الظواهر بالكاشفية الفعلية إنما هو ظهورها الاستعمالي في العموم، وعدم إقامة قرينة متصلة على أنه ليس بمراد جدا، بعد كون المتكلم في مقام أفاده المرام، فكل ظاهر إذا كان كذلك فهو واجد لجميع ما هو شرط أن يراه العقلاء كاشفا عن مرام المتكلم.
لكنه إذا كان في قباله كلام منفصل هو كالمخصص له، وكان هذا المنفصل أيضا جامعا لمقومات الكاشفية، فلا ريب في أنه يحكم له بالكاشفية عن مرام المولى، ومعه فلا يمكن بقاء تلك الكاشفية للعام - مثلا - لا لعدم جامعيته في ذاته لشرائط الكاشفية، بل لابتلائه بذلك الكاشف الأقوى، فهو مزاحم أقوى لكاشفيته التي هي منشأ انتزاع الحجية، فإن الحق أن الحجية أمر انتزاعي من إحتجاج العبد أو المولى على الآخر بما انكشف من مرامه بالكاشف العقلائي.
وأما ما أفاده في الأصول العملية فلا يمكننا تصديقه، فإن الحق أن العقل يحكم بقبح العقاب إذا لم يكن بيان، والبيان عنده عبارة عن اعلام التكليف الإلزامي بطريق متعارف يمكن المكلف الوصول إليه، وعليه فإن كان مورد الشك في التكليف مما اعلم المولى بطريق يمكن الوصول إليه أن فيه تكليفا الزاميا فهو ليس موضوع الحكم بالقبح، وإن لم يعلمه كذلك فهو موضوع هذا الحكم، سواء فحص المكلف عنه أم لا، فلا شأن، للفحص إلا إحراز أن المورد من أيهما؟ وإلا فالفحص والاحراز ليس مقوما لموضوع حكم العقل بالقبح، بل سبب الإحراز ما هو بنفسه موضوع لحكم العقل بالقبح، أو لاحراز التكليف المنجز مع قطع النظر عن الفحص أيضا.