لعبد الله عمر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من دنياك لآخرتك من حياتك لموتك ومن صحتك لسقمك فإنك يا عبد الله ما تدري ما اسمك غدا والأمل هو الإرادة للأمر المستقبل المشكوك في كونه بالحكم والبت من دون التفات إلى المشية اتكالا على الأسباب الظاهرة وهو من منشعبات حب الدنيا والناس متفاوتون فيه بحسب التفاوت في أصله على مراتب من أمل البقاء في الدنيا أبدا أو إلى ألف سنة كما أخبر الله عنهم بقوله ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ومن البقاء إلى الهرم وهو أقصى العمر الذي شاهده في آحاد المعمرين وإلى السنة فلا يشتغل بتدبير ما وراءها ولا يقدر لنفسه وجودا في عام قابل ولكن يستعد في الصيف للشتاء وفي الشتاء للصيف وإذا أحرز ما يكفيه لسنته كف عن الطلب واشتغل بغيره وإلى التمام الفصل فلا يدخر في الصيف للشتاء ولا في الشتاء للصيف وإلى الشهر فلا يتأهب للشهر القابل وإلى اليوم الحاصر فلا يستعد لغد كما روي عن عيسى (ع) لا تهتموا برزق غد فإن يكن غد من آجالكم فسيأتي أرزاقكم مع آجالكم وإن لم يكن غد من آجالكم فلا تهتموا لأرزاق غيركم ومنهم من لا يتجاوز أمله الساعة كما في الحديث المتقدم ومنهم من يكون نصب عينه يترقبه في كل آن كما روي أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي ألا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت ثم قال يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي بيده أن ما توعدون لات وما أنتم بمعجزين وهو من مواضع الغرور فإن كل أحد يدعي من نفسه أنه قصير الأمل وإنما تظهر الحقيقة بالأعمال والآثار مثل الادخار لضرورات الحياة والتأهب للبقاء المقدر فإن من يدخر ويتأهب لسنة مثلا ليس صادقا في دعوى النقيصة أو المراد التأهب للموت فإن الاشتغال به علامة قصر الأمل والاغفال عنه علامة طوله وآفاته ترك المبادرة إلى الطاعة والكسل عنها والتسويف لها اتكالا على اتساع الوقت فإن من له غائبان ينتظر قدوم أحدهما في غد والآخر بعد سنة فلا يستعد للأخير وإنما يشتغل بالاستعداد لمن يستقرب قدومه فالمبادرة إلى الاستعداد من نتايج قرب الانتظار فمن أنتظر مجئ الموت بعد سنة اشتغل قلبه بالمدة ونسي ما ورائها ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها لا ينقص منها اليوم الذي انقضى وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبدا فإنه يرى لنفسه متسعا في تلك السنة فيكسل ويؤخر العمل ومن آفاته أيضا الحرص وحب المال كما سلف في باب حب الخمولة ونسيان الآخرة كما في حديث أمير المؤمنين (ع) إنما أخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق وأما طول الأمل فإنه ينسى الآخرة والقسوة ففي الحديث فيما ناجى الله عز وجل به موسى يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك و القاسي القلب مني بعيد وسببه القريب حب الدنيا فإن المحب المتصل بمحبوبه مشتغل القلب بوصاله و التمتع به عن الالتفات إلى فراقه وزواله ولا يزال يقرر في نفسه لوازم الوصال من دار وأهل ومال وخوادم ودواب وآلات ومرافق وأسباب فيصير عاكفا على هذا الفكر فيلهو عن الموت وذكره فإن خطر له في بعض الأحوال عول على شبابه أو قوة مزاجه وصحة بدنه أو سول له الشيطان إن الأيام بين يديك فتقضي وطرك من بناء هذه الدار ثم تتفرغ للآخرة أو من عمارة هذه الضيغة وتدبير هذا الولد وجهازه ونحو ذلك والأصل فيه الجهل بالحقايق وأن الدنيا خسيسة لا تليق المحبة والاشتغال بها عن الآخرة وعلاجه علاجهما وذلك بالنظر في حقيقة الدنيا ومجابها الوهمية التي أعظم حظوظ طالبيها الحسرة الدائمة كما مر في الأبواب السابقة وذكر احتمال فجأة الموت وأن الشباب لا يصلح للتعويل فإن مشايخ البلد لو عدوا لكانوا أقل من عشر أهلها وإنما قلوا لأن الموت في الشبان أكثر وكذا صحة المزاج وقوة البدن فإن موت الفجأة يفشو غالبا في الأمزجة القوية و الموت ليس له وقت مخصوص من شيب أو شباب أو قوة أو ضعف وكثيرا ما يتفق بالأسباب البادية من الهدم و الغرق والسم والسبع والعدو ونحوها مما إذا التفت إليه العاقل لم يزايل هم الموت فكره ولم ينس ذكره فذكره مع استقرابه يوجب التأهب له كما ذكر في المثال الغائب المنتظر والتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود وعن أبي عبد الله (ع) ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ويقلع منابت الغفلة ويقوى القلب بمواعد الله ويرق الطبع ويكسر أعلام الهوى ويطفئ نار الحرص ويحقر الدنيا الحديث وحقه أن يذكر الموت رغبة إلى لقائه (تع) كما هو شأن العارفين المشتاقين إلى الخلاص من الدنيا والنظر إلى وجه الله وهو من أعلى الوجوه التي يذكر عليها الموت ودونه أن يذكر بعثا للخوف الموجب سرعة التدارك له كما هو شأن التائبين المنساقين بسوط الخوف إلى الوفاء بتمام التوبة واصلاح الزاد ودون الجميع أن يذكر على وجه التأسف على فوات الدنيا كما هو شأن المنهمكين فيها المحبين لها فإنهم يكرهون الموت ولا يذكرونه إلا على وجه الحسرة والتألم لفراق الدنيا وهم الذين قال الله فيهم أن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم فهو من الذكر المذموم لأنه مبعد عنه (تع) إلا أن يستفيد به تنغص اللذة وتكدر الشهوة فربما ينجر إلى النجاة فورد في النبوي المتفق عليه من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ومن كره لقاء الله كره الله لقائه والمراد بلقاء الله المصير إلى دار الآخرة وبالمحب له العارف المشتاق إليه سبحانه كما مر فالموت موعده المنتظر والمحب لا ينسي موعد لقاء الحبيب بل يستبطئه وبالكاره الراغب إلى الدنيا المحب لها العازف عن الدنيا لذلك بخلاف الخائف هجومه قبل تمام التوبة والتدارك واصلاح الزاد فهو ليس يكره الموت واللقاء وإنما يكره فوت اللقاء لقصوره وتقصيره وهو كالذي يتأخر لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه فلا يعد كارها للقاء وهذا لو فرض له حصول العلم بغفران
(٧١)