وقد عرفت أن العمدة من أدلته إنما هي مسألة رجوع الجاهل إلى العالم التي هي قاعدة أصيلة عقلائية، وإذا راجعنا العقلاء في حدود رجوعهم إلى العلماء في غير باب الأحكام الشرعية نراهم لا يفرقون بين الحي والميت قطعا، فهل ترى أنهم إذا أرادوا الوقوف على خواص بعض النباتات مثلا، قد ذكرها الشيخ الرئيس أو بعض آخر من علماء هذا الباب في كتبهم، فهل ترى فرقا في حجية ما ذكره في كتابه بين زمان حياته وما بعد وفاته، أم لا تشك في أنه إذا أريد الأخذ بنظره ورأيه فآرائه المسطورة في كتابه حجة وطريق معتبر يؤخذ بها في كلتا الحالتين؟ وهذا واضح جدا لا ينبغي الريب فيه أصلا.
وحينئذ فمقتضى السيرة العقلائية حجية قول الميت من أهل الخبرة كما إذا كان حيا، وقد عرفت أن مبنى جواز التقليد هو هذه السيرة وأن الأدلة اللفظية أيضا منزلة عليه، وحينئذ فمقتضى الدليل الإجتهادي من السيرة والإطلاقات جواز تقليد الميت أيضا كما في الحي.
ولو شك فيه فاستصحاب طريقية رأيه يقتضي الجواز، وليس المراد برأيه وقوله هي الحالة النفسانية التي ربما يدعى انعدامها عقلا أو عرفا بموته، فلا يبقى لها موضوع، فيختل ركن الاستصحاب، بل المراد به معنى يبقى ولو بعد الموت، فكل ما هو موجود في كتاب خواص النباتات - مثلا - عن عالم بها فهو آراء له، ولا شك في عدم تقومها بحياته، فهذا المعنى هو المراد بالرأي، وهو الموضوع للحكم بالحجية والطريقية عند العقلاء.
فإن شئت قلت: إن موضوع الحجية هو ما كان قولا لمن هو من أهل الخبرة ولم يرجع عنه، من غير اشتراط التفاته إليه دائما، ولا بقاء حياته أو بقاء سلامته، فهذا القول قد كان طريقا عند ما كان حيا سليما، فإذا مات أو مرض وشك في بقاء الحجية والطريقية كان مقتضى الاستصحاب بقاءه على ما كان.
فمقتضى الأصول العملية والأدلة الاجتهادية جواز تقليد الميت كالحي.
* * *