المتعادلين فلا ريب في أن التخيير إنما هو المجتهد بالنسبة إلى عمل نفسه إذا كان مدلول المتعارضين متعلقا بما هو عمل له أيضا، كما أن له التخيير في الأخذ بأي من المتعارضين شاء إذا كان في مقام القضاء، فإن القضاء والحكم وظيفة له واجب عليه بعد تمام شرائطه، ويجب أن يكون مطابقا للشرع، وحكمه موضوع ترتيب الأثر شرعا وواجب الاتباع للمتخاصمين وغيرهما، فإذا كان الحكم الشرعي يؤخذ من المتعارضين، فلا محالة هو مخير في الأخذ بأي منهما شاء، وهو واضح كسابقه بلا إشكال.
وإنما الكلام في المجتهد المفتي، فهل عليه أن يفتي بمضمون المتعارضين وبتخيير المقلد في الأخذ بأيهما شاء؟ أو عليه أن يختار أحد المتعارضين، فيفتي بمضمونه تعيينا - في مرحلة الظاهر - أو هو مخير بينهما؟ وجوه، أقواها الأول، وذلك لما سيأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - في مبحث الاجتهاد والتقليد من أن حقيقة التقليد هي الرجوع إلى أهل الخبرة، فالمجتهد المفتي بما أنه ثقة خبير يكون قوله طريقا إلى الأحكام الشرعية، أي إلى مفاد الأدلة المتضمنة لها، فأخبار الثقات وظواهر الكلمات والجمع العرفي بين الظواهر كلها معتبرة بما أنها طرق إلى الواقع الذي هو مفادها، وأخبار العلاج أيضا طرق معتبرة إلى ما جعله الشارع وظيفة كل مكلف في تعارض الأخبار.
فإذا اجتهد المفتي واستنبط حكم الله من هذه الطرق فهو إنما يخبر عن مؤداها، وقوله بما أنه خبير ثقة طريق معتبر لمن يقلده، فلا محالة إذا كان الطريق بلا معارض دالا على حكم من أحكام الشريعة فلا محالة يفتي به، أي يخبر عن أن هذا الحكم الكذائي هو مفاد الطرق، وقوله هذا طريق وحجة، وإذا تعارض الطريقان وقد حكم الشارع بتخيير المكلفين في الأخذ بمفادهما، فلا محالة يخبر عن واقع ما جعله الله وظيفة عليهم، وليست عنده إلا أنهم مخيرون في مرحلة الظاهر بالعمل بأي المفادين شاؤوا، وإخباره هذا طريق معتبر لمن يقلده، وليس له أن يخبر إلا عما أدركه، فليس له أن يخبر إلا بهذا التخيير الذي جعله الله وظيفة