الهداية والمعرفة وجعل لها أسباب ومداخل هي الحواس الباطنة والظاهرة وخلق الهمة وهي نزوع النفس وتوجه القلب نحو المقصود وخلق القدرة وآلاتها الأعضاء المتحركة إليه فإذا جزمت المعرفة الاعتقاد بأن الشئ موافق للغرض انبعثت الهمة وانتهضت القدرة لتحريك الأعضاء حتى يتم بهذه الأمور الثلاثة العمل وما لم يعتقد الانسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يميل إليه ولا يتوجه نحوه قصده و ذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كل حين وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغا غير مصروف عنه بغرض أقوى منه وذلك لا يمكن في كل وقت والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة وتختلف بسببها الإرادات وقوتها وضعفها ولاختلاف الأحوال والأعمال والخواطر في ذلك مدخل عظيم فإذن لا تدخل النية تحت الاختيار ولا يمكن خلقها واختراعها في النفس ولا صرفها من وجه إلى آخر بالتصنع والتحريف فمن غلبته شهوة النكاح ولم يعتقد غرضا صحيحا في الولد وطئ حليلته لغلبة الشهوة البهيمية أنى ينفعه قوله الحسي باللسان والنفسي بالتصور نويت به إقامة السنة بالطروقة وتكثير الأمة بالتعرض لحصول الولد إذ لا وجه لفعله إلا قضاء الشهوة فلا ينفعه تكلف غيرها نعم طريق اكتساب هذه النية مثلا أن يقوي ايمانه بالشرع ويعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى الله عليه وآله ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد من ثقل المؤنة وطول التعب وغيره وإذا فعل ذلك فربما انبعثت من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب فتحركه تلك الرغبة وتحرك أعضائه لمباشرة الوطي فعند ذلك يكون ناويا للولد وهي المعبر عنها في الأخبار بالنية الصادقة إشارة إلى أن أكثر ما يقرره الناوون في أفكارهم ويرددونه في أذهانهم مما يخدعون به أنفسهم وسواس وهذيان ومن ثم كان يمتنع بعض المشايخ من بعض الطاعات أحيانا حين لم تحضرهم النية إذ علموا أن النية روح العمل وأنه بدونها تكلف وتصنع لا يسمن ولا يغني من جوع وهذه النية هي أحد جزئي العبادة والجزء الآخر العمل المنبعث عنها بمعونة القدرة فهي تتوقف عليها على حد توقفها على العمل ولا تتحقق إلا بالاتيان بهما مجتمعين فإن وجود المركب متوقف على وجود جميع أجزائه وكما لا يتعين الجسم المؤلف من اللحم والعظم وغيرهما لكونه حيوانا إلا باشتماله على الروح كذلك لا يتعين العمل المركب من القيام والقعود والانحناء والارغام وغيرها لكونه صلاة إلا باشتماله على النية ففي النبوي المتفق عليه حتى عد متواترا إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى وعن السجاد والرضا (ع) لا عمل إلا بنية وظاهر الحصرين انتفاء حقيقة العمل بدونها فليحمل على أقرب المجازات الممكنة حيث تتعذر الحقيقة والمشهور أنه الصحة كما في لا صلاة إلا بطهور على المشهور في الشرط الشرعي فاستدلوا به على اشتراط النية في العبادات وعلى اعتبار مقارنتها لأول جزء فلو أخرت عنه لوقع بعض الأجزاء بلا نية فيبطل وببطلان الجزء يبطل الكل وكذا لو قدمت ولم تستمر إلى الشروع إذ حينئذ يخلو جميعها عن النية وعلى استدامة حكمها إلى الفراغ وإن اختلفوا بعد ذلك في تفسيرها والمناقشة بأنه الثواب وإلا لزم التخصيص في الأعمال إذ لم يثبت كونها حقيقة شرعية في العبادات مما لا يثمر شيئا لأنا لا نعني بالعبادة الصحيحة إلا ما يثاب عليها نعم ما ذكره بعضهم من اعتبار قصد الوجوب أو الندب وسائر الخصوصيات في كل عبادة عبادة مثل رفع الحدث واستباحة الصلاة في الوضوء قربة إلى الله واستحضار جميع ذلك بالبال على التفصيل مما لا تشمله أدلة النية لما عرفت من أنها ليست إلا القصد الباعث على العمل المعين وإنما الذي يدل عليه الدلايل هو اشتراط قصد القربة وهو الاخلاص المبحوث عنه في الباب الآتي وقصد الفعل المعين مما لا ينفك عنه العاقل العامد في أفعاله الاختيارية ومن ثم قيل لو كلفنا بايقاع الأعمال بغير نية لكان تكليفا بما لا يطاق فإن قلت التعيين لا يحصل إلا بملاحظة الخصوصيات لأنها بمنزلة الفصول المميزة للحقايق المختلفة المندرجة تحت الجنس فقصد الفعل المعين قصد لخصوصياته وهو عين ما ذكره البعض قلت لا نسلم أن جميع الخصوصيات التي ذكروها بمنزلة الفصول التي لها مدخل في التعيين فإن رفع الحدث واستباحة الصلاة مثلا ليسا منها بل هما من اللوازم فإذا تصور فعله بعنوان أنه وضوء فهو متعين ممتاز عن امساس الأعضاء بالماء على وجه النظافة مثلا واللوازم مندرجة فيه لا مدخل لها في التعيين وكذا قيد الوجوب أو الندب بعد تصور أنه وضوء فإنه إن كان لغاية واجبة فواجب وإلا فمندوب وبعد التسليم فلا ريب في الفرق بين حضور الشئ في الذهن اجمالا وحضور تفصيله في الفكر وقد يتصور الانسان شيئا بصورة واحدة تتضمن معاني كثيرة ويحكم عليه بحكم واحد يتضمن أحكاما كثيرة كقولك الانسان حادث فتصور الانسان يتضمن تصور الموجود والممكن والجوهر والجسم والمتحيز والنامي والمغتذي والمتحرك والحساس والعاقل والمختار والناطق والضاحك وغير ذلك و كذا الحكم بأنه حادث حكم بأنه موجود وأنه في زمان وأن لعدمه زمانا سابقا ولوجوده زمانا لاحقا وأن له موجدا فهذه أحكام متعددة يتضمنها الحكم بأنه حادث ولكن ليست هذه التفاصيل حاضرة في البال متميزة بعضها عن بعض واستحضارها جميعا عند الدخول في العبادة من الوسواس الذي ورد فيه أنه من عمل الشيطان فإن من دخل عليه وقت الظهر وهو يعلم وجوب الصلاة عليه فقام يصلي فهو نظير من دخل عليه عالم فقام لتعظيمه ولو قال انتصب قائما تعظيما لدخول هذا الفاضل لأجل فضله قياما مقارنا لدخوله مقبلا عليه بوجهي لعد سفيها في عقله لأن هذه المعاني مخطورة بالبال لا يستدعي حضورها جملة في القلب طولا في الزمان وإنما يطول زمان نظم الألفاظ الدالة عليها إما تلفظا باللسان أو حديثا بالنفس ومنه ينشأ شك آخر وهو فوات المقارنة حينئذ بمجموع النية لأنها مترتبة الأجزاء يتعذر تفصيلها دفعة واحدة فالمقارن لأول العمل هو الجزء الأخير منها لا غير ويقوى لو وقع التلفظ بهذه الألفاظ المستحدثة المرتلة بالاعراب والتجويد فإنه عمل يحتاج إلى قصد إليه ونية ينبعث منها فما بعده أن يكون هو النية بل هو إلى البدعة أقرب وأما المقارنة والاستدامة فيتبين حالهما مما قرره بعض المحققين ومحصوله مع تتميم أن الحركات الصادرة منا بالاختيار إنما تصدر بعد تصور الفعل والغاية
(٧٣)