فيه وفي عارضه وهو ما يوصف به من الأحكام الشرعية وله بحسب كل منها درجات مترتبة يتدرج من أوائلها إلى ثوانيها في السلوك وأدنى درجات الزهد باعتبار نفسه أن يترك الدنيا وقلبه متعلق بها فيتكلف ويجاهد فيه لميل النفس إلى الدنيا وهو تزهد ومبدء للزهد في حق من يصل إليه و المتزهد على خطر إذ ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا والاستراحة بها في قليل أو كثير ثم إن يتنفر القلب عنها فلا يحتاج إلى مجاهدة فهو زهد من ملكات النفس المطمئنة إلا أنه لا يخلو عن شوب تشويش بسبب التنفر وربما يرى زهده ويلتفت إليه كما يرى البايع مبيعه وإن كان لا يشق عليه البيع إذا سلف ما يسوى قليلا بثمن رابح لكن يحتاج إلى انتظار الموعد فيكاد أن يظن بنفسه أنه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم منه وهذا أيضا نقصان ثم عدم الميل والتنفر جميعا لتسوية الوجود والعدم عنده فهو استغناء كما سبق وقد تقدمت الإشارة إلى أنه من مواضع الغرور وربما يظنه الواجد بنفسه لسكونها بما ظفرت به من المقصود فليجربها ويعرف بتسوية سرقة ماله ومال غيره في عدم الاعتداد فإن صح فهو أكثر اطمئنانا وأثبت فليأمن الزاهد ثم عدم اعتباره بزهده إذ لا يرى أنه ترك شيئا لأنه عرف أن الدنيا لا شئ فيكون كمن ترك خنفساءة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة ولا نفسه تاركا شيئا والدنيا بالإضافة إلى الآخرة أخس من خنفساءة إلى جوهرة ومن منعه عن الدخول إلى الملك كلب على بابه فألقى إليه قطعة عظم شغله بها ودخل فتناول من الموائد المبذولة وتمتع بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ونال الكرامة والقرب من الملك افتري أنه يرى لنفسه بدا عند الملك بما ألقيه إلى كلب من العظمة فالشيطان كلب على باب الله والدنيا كقطعة من العظم فمن يتركها لينال ما ينال بتركها كيف يلتفت إليها ويعتد بها بل نسبة الدنيا إلى الآخرة أقل من نسبة العظمة إلى موائد الملك وكرامته نسبة المتناهي إلى غير المتناهي وهذا هو الكمال في الزهد بحسب درجاته في نفسه ولكل منها عرض عريض وأما درجاته باعتبار مأمنه فأدناها أن يترك الدنيا من خوف النار وسائر عذاب الآخرة وهذا زهد الخائفين وكأنهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإن الخلاص من الألم يحصل بمجرد العدم ثم من الرجاء شوقا إلى الجنة وما فيها من الحور والقصور ونحوها وهذا زهد الراجين فإنهم لم يتركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا في وجود دايم على نعيم قائم لا آخر له وهذه فوق الأولى وإن كانتا ليستا بذاك لاقتضائهما المحبة لسلامة النفس وحظوظها ومثال الأول مثال المريض الذي يترك الأغذية المضرة طمعا في العافية والثاني مثال الذي لا يأكل اليوم توفيرا لشهوته غدا في ضيافة مترقبة ثم من رفع الالتفات إلى ما سواه (تع) من غير تقيد بالنار وآلامها ليقصد الخلاص منها ولا بالجنة ولذاتها ليقصد نيلها والظفر بها وهذا زهد العارفين الذين همهم مقصورة عليه (تع) لا رغبة لهم إلا فيه وفي لقائه فإن من عرفه سبحانه يستحقر جميع ما سواه ويرى الراغب إلى الجنة للاحتظاظ بما فيها من اللذات الحسية الغافل عن لذة النظر إليه عز وجل كالصبي المستلذ للعب بالعصفور لقصوره عن ادراك لذة السلطنة مثلا وأما درجاته باعتبار ما فيه فأدناها أن يزهد في المال دون الجاه وإليه أشار فضيل بقوله الزهد هو القناعة ثم في الجاه دون المال وإليه أشار بشر بقوله الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس وهو فوق الأول لأن الجاه أشهى من المال كما سبق وهما كالتوبة عن بعض الذنوب المفيدة لنقصان العقوبة دون النجاة لأنها بترك الكل كما تقدم ثم في كليهما وإليه الإشارة في حديث أبي عبد الله (ع) الزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا والذل على العز والجهد على الراحة والجوع على الشبع وعافية الأجل على محنة العاجل والذكر على الغفلة ويكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة ثم في جميع ما سواه (تع) حتى في نفسه وعنه (ع) الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار وهو تركك كل شئ يشغلك عن الله من غير تأسف على فوتها ولا اعجاب بتركها ولا انتظار فرح منها وطلب محمدة عليها ولا عوض لها بل ترى فوتها راحة وكونها آفة وتكون أبدا هاربا من الآفة معتصما بالراحة وأما درجاته باعتبار ما يعرضه من الحكم الشرعي فأدناها الفرض وهو أن يزهد في الحرام خاصة وهو زهد العدول ثم السنة وهو الزهد فيما يرجح تركه ولم يثبت تحريمه من الشبهة والمكروه وهو زهد المتقين وإليه أشار بعض السلف بقوله الزهد التقوى ثم النقل بمعنى أخص من السنة وهو في فضول المباح وإليه الإشارة بقول أبي عبد الله (ع) وقد سئل عن الزاهد في الدنيا الذي يترك حلالها مخافة حسابه ويترك حرامها مخافة عذابه ونزلها في الحقايق على ثلاث أيضا الفرص كما هنا والسلامة في الشبهات والنفل في الحلال وهو الموافق للاحياء والدرجات العالية قد تتصادق فإن عدم الاعتبار بالزهد في جميع ما سواه لرفع الالتفات إليه نفل بالوجهين إلا أن تحديد فضول المباح التي يقع فيها الزهد و هي التنعمات المستلذة بالمباحات التي يمكن الغنى عنها وكذا ضبط مقدار الضرورة في كل شئ على التعيين حتى يحكم على الزايد بأن القصد إليه ينافي الزهد متعذر ولاختلاف الأشخاص والأحوال في ذلك مدخل عظيم وكذا لاختلاف النيات والقصود في تعاور الأحكام المختلفة والالتحاق تارة بالدنيا المزهودة وأخرى بالآخرة المرغوبة كما مرت الإشارة إليه فمما ينافيه ويخرج عنه القصد إلى الكسب للذة وإن كانت مباحة فإنها من الدنيا دون ما إذا قصد فيه العدة على العبادة وإن حصلت اللذة بالتبع فإنها حينئذ معدودة من الآخرة كما سبق وكذا يخرج عنه الادخار إن زاد المدخور على قوت السنة له ولعياله بحسب حاله دون ما لم يزد كما مر من حال سلمان وعن الرضا (ع) أن الانسان إذا ادخر طعام سنة خف ظهره واستراح وكان أبو جعفر وأبو عبد الله لا يشتريان عقدة حتى يحرزا طعام سنتهما ويتأكد الرخصة في المعيل والمنع في غيره إلا لمن لا يكسب بعمل ولا
(٦٢)