التوفيق على الطاعة بتهيئة أسبابها والعصمة عن المعصية بالتثبيط عنها وهي وإن كانت أحوالا دنيوية لأنها قبل الموت وربما تشتمل على حظوظ عاجلة أيضا إلا أن الغالب فيها حظ الدين فمن ثم تنسب إليه وهي أعظم من الدنيوية المحضة لأنها نعم في أنفسها ومباد لنعم أخرى دائمة لايصالها إلى السعادة الأبدية من اللذات العقلية والحسية التي لا نهاية لها والانجاء عن الشقاوة السرمدية وهي الآلام كذلك والمراد بالسرمد هنا ما يرادف الأبد وإن أريد به في غيره ما يعمه والأزل وأما قوله سبحانه خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض فإما أن يراد سماوات الآخرة وأرضها أو هو كناية عن الدوام والتأبيد في كلام العرب والقرآن نزل بلغتهم وفي الحديث النبوي وأحاديث أهل البيت صلوات الله عليهم أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جئ بالموت كأنه كبش أملح فيذبح ثم يقال خلود فلا موت أبدا وما يتوهم من أن في القول بتأبيد أهل الآخرة منافاة لما ورد من أنه سبحانه هو الباقي والآخر وكل شئ هالك إلا وجهه ونحو ذلك مما يدل على اختصاص البقاء الأبدي به (تع) فيجب حمل ما يدل به على التأييد على المكث المديد فمدفوع بأن المعلوم اختصاصه به عز وجل هو البقاء الذاتي ولا ينافي ذلك بقاء غيره بالغير وقد يترائى أن القول ببقائهم ملتذين أو متألمين إنما يستقيم في الأرواح المجردة بلذاتها وآلامها العقلية دون الأبدان ولذاتها وآلامها الحسية لأن القوى الجسمانية متناهية فلا يعقل خلود الحياة ولمثل هذا يقال بوجوب الموت في الدنيا وأيضا الرطوبة التي هي مادة الحياة تفنى بالحرارة سيما حرارة نار جهنم فيفضي إلى الفناء ضرورة وأيضا دوام الاحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل وكل ذلك من باب قياس الغائب على الشاهد في غير محله فإن لاختلاف النشأة أثرا بينا في اختلاف أحكامها ولا يمتنع أن تكون الرطوبة الأصلية التي هي مادة الحياة محفوظة عن الفناء بحفظ القادر المختار وإنما المتحلل بالحرارة ما عداها من الأجزاء الغريبة الغذائية أو تكون هذه الأجزاء فيهم قائمة مقام الأجزاء الأصلية في قوام البنية كما هو ظاهر قوله (تع) كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها وبالجملة فليس هذا مما يصغى فيه إلى تشكيكات المتشككين وقد نقل عليه اجماع المليين وأما ما ورد في بعض شواذ الأخبار من أنه يأتي على جهنم حين تصطفق أبوابها فمعارض بظواهر الكتاب والسنة المتواترة وقد ورد من طريق أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) انكاره قال لا والله إنه الخلود على أنه أخص من المدعى وهذا كلام وقع في البين واشتراك الكفار في النعم الدنيوية مما يختص به الأبرار أجل واغتنام الأبرار زوال ما لا يهم منها لأنها مظنة الشغل عما هو أهم منها كما تقدم ومن ثم إذا رأوا الدنيا مقبلة قالوا ذنب عجلت عقوبته وإذا رأوا الفقر مقبلا قالوا مرحبا بشعار الصالحين وهذا التقسيم للنعمة إنما هو لجنسها العام ويندرج تحت كل من النوعين أنواع جزئية كثيرة وتحت كل منها أصناف شتى وتحت كل منها أفراد كثيرة وطلب الاحصاء لجميعها توقع المحال كما قال الله عز وجل وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وإذا تأمل المتأمل في قرصة واحدة يتناولها وهي من مبتذلات النعم وما اجتمع فيها من الأجزاء العنصرية ثم ما عمل فيها من الأرض والماء والريح والحرارة المنضجة والسحاب والمطر و الظل وأضواء الكواكب والملائكة المدبرة لها وأيدي البشر العاملين عليها بالحرث والنثر والسقي والتربية والحصاد والتنقية والطحن والعجن والخبز وتهيئة آلات ذلك كله من الخشب والحديد والرباط والحيوان والإرادة المحركة لذلك الموقوفة على الادراك وخلق آلات الإرادة والادراك والتناول و صرف الموانع ثم في آلات الأكل والاغتذاء من الفم والأسنان والحلق والأمعاء والمعدة والكبد والطحال والرية والصفاقات والشرايين والأوردة وسائر العروق والقوى المودعة فيها وغير ذلك لعد من أنواع النعم الجليلة فضلا عن آحادها ما يحار فيه عقله ويتقاصر دونه فهمه وفي الحديث أن آدم (ع) لما هبط إلى الأرض احتاج إلى ألف عمل من أعمال اليد حتى صنع قرصة واحدة من خبز ثم احتاج إلى عمل آخر وهو أن يصبر حتى تبرد ليأكلها فسبحان من لا يحصي نعمه العادون والطريق إلى الشكر تحصيل المعرفة والتنبه لدقائق الأمور فإن النعم المتكررة يقل وقعها ويهون خطبها فيبقى شكرها مغفولا عنه وفي المشهور نعمتان مجهولتان الصحة والأمان وإذا سلبت تبين فقدها فلو أعيدت استعظمت وشكرت ومن ثمة ترى البصير لا يشكر نعمة البصر حتى إذا أصيبت عينه فعند ذلك لو أعيدت عليه عرفها نعمة وشكرها وكذا روح الهوا والنسيم الطيب الذي به قوام الحياة والتنفس لا يعد نعمة إلا بعد الابتلاء بمخنقة يشرف فيها على الهلاك فعند ذلك يعرف قدر تلك النعمة والقيام بواجب شكرها ويحكى أن بعض المريدين شكى إلى شيخه الفقر وسوء الحال وكثرة اغتمامه بذلك فقال له أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم فقال لا قال أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف فقال لا قال أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف فقال لا قال أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا قال لا قال أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفا والتفكر في صنائعه (تع) وأن جميع ما في الكون من العلويات والسفليات كلها مسخرة موقوفة لمرافق الانسان وجميعها نعم فائضة عليه وله عليها الاستعلاء واليد هذا بالنسبة إلى النعم العامة ولا ينفك أحد من نعم مختصة يرى الأكثر خلوا عنها وإن وجد الأقل أكمل فيها ومن ثمة ترى المغبوطين عند كل أحد أقل من غيرهم فينبغي للبصير النظر إلى الأدنى في نعم الدنيا ليستعظم نعمة نفسه فيكتفي بها ويقوم بشكرها وإلى الأعلى في نعم الدين كالعلم و العمل ليستحقر خصال نفسه فلا يعجب بها ويتحرك لطلب الزيادة وفي الحديث من نظر في الدنيا إلى من فوقه وفي الدين إلى من دونه لم يكتبه الله لا صابرا ولا شاكرا وربما يلزم في الحال الواحد الصبر والشكر جميعا فإن الشئ الواحد قد يتألم به من وجه ويفرح به من آخر كالكي وقطع العضو المؤف فيصبر ويشكر
(٦٧)