التي لها مدخل في الأعمال الصالحة كقدر الحاجة من الطعام والمسكن ونحوهما من ضرورات التعيش في الدنيا وما لا بد منه فيها وهذا إن أريد به حيثية الحظ العاجل التحق بالدنيا وإن أريد حيثية المعونة على العبادة التحق بالعبادة وقد عد التعرض للرزق من العبادة وفي الحديث النبوي العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال والعبادة وإن كانت معدودة من الدنيا بوجه كما في الحديث النبوي حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة إلا أنها بأنواعها العلمية والعملية وكذا ما لا بد منه فيها بوجه أقوى معدودة من الآخرة لأنها لها وعن أبي عبد الله (ع) أنه قال له رجل والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نأتيها فقال تحب أن تصنع بها ماذا قال أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدق بها وأحج واعتمر فقال ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة ولخروجها عما جمع من الأمور الخمسة محصورة فيها الحياة الدنيا في قوله عز وجل إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد بين سبحانه أن ما لا يتوصل به من أمور الدنيا إلى سعادة الآخرة أمور وهمية عديمة النفع سريعة الزوال وإنما هي لعب يتعب الناس به أنفسهم أتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة ولهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم وزينة من ملابس شهية ومراكب بهية ومنازل رفيعة ونحو ذلك وتفاخر بالأنساب والاحتساب و تكاثر بالعدد والعدد فهذه هي أحوال الدنيا بأجمعها مما لا يتعلق منها بالآخرة مترتبة في الذكر ترتب مرورها على الانسان غالبا فإن أول ما يظهر في الصبي في مبدأ تمييزه وحركته واستقلاله غرائزه بها يستلذ اللعب حتى يكون ذلك عنده ألذ الأشياء ثم يظهر فيه بعد ذلك استلذاذ اللهو واستماع الأشعار والأقاصيص وركوب الدواب الفارهة فيستخف معها اللعب بل يستهجنه ثم يظهر فيه بعد ذلك لذة الزينة بالنساء والمنزل والخدم فيستحقر ما سواها ثم يظهر فيه بعد ذلك لذة الجاه والرياسة ومباهات الأقران ومفاخرة الأكفاء ثم لذة التكاثر من الأموال وجمعها والاستظهار بالأعوان والأتباع والأولاد وهذه آخر لذات الدنيا ثم قد يظهر بعد ذلك لذة العلم بالله وقربه ومحبته والقيام بوظائف عباداته وترويح الروح بمناجاته فيستحقر معها جميع اللذات السابقة ويتعجب من المنهمكين فيها وكما أن طالب المال والجاه يضحك من لذة الصبي باللعب بالجوز مثلا كذلك صاحب المعرفة يضحك من طالب المال والجاه ويسخر به وكذا أصحاب المعرفة بعضهم من بعض بحسب تفاوتهم في مراتبها وفوق كل ذي علم عليم ومتاعها الذي هو موضوع هذه الأحوال الخمسة ما جمع من الأمور السبعة في قوله (تع) زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب واختلف في المزين فقيل هو الله إذ خلق الانسان على جبلة الشهوة لها ابتداء كما قال إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا و قيل بل الشيطان لأنه (تع) قد ذم الدنيا وقبح شهواتها فلم يكن مزينا لها وقيل ما يحسن منها فمن الله وما يقبح من الشيطان والشهوات هي المشتهيات وسميت شهوات مبالغة وايماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهواتها كقوله (تع) حكاية عن سليمان إني أحببت حب الخير والقنطار قيل المال الكثير وفي الحديث أنه ملأ مسك ثور ذهبا والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم ألف مؤلفة والمسومة المعلمة بالغرة والتحجيل أو المرعية والأنعام الإبل والبقر والغنم والحرث الزرع والنبات قيل وإنما لم يذكر الدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب والمعدودات أنواع الشهوة وقد أجملها الله تحت الجنس معبرا عنه بالهوى في قوله عز وجل وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى والشغل بها على وجهين أحدهما وهو الأصل حب حظوظها باطنا ويندرج فيه جميع الصفات القلبية المتعلقة بالدنيا كالكبر والحقد والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والحرص وغيرها وهي الدنيا الباطنة ومنه ينشأ الوجه الآخر و هو الحركة إلى تحصيلها ظاهرا بأنواع الحيل والعلاجات المرتبطة بعضها ببعض الصارفة لذويها عن الله المستغرقة لجميع أوقاتهم وحواسهم حتى نسوا ما ذكروا به وكان عاقبة أمرهم خسرا ومشاعل الدنيا متواصلة متلازمة يجر قليلها إلى الكثير وصغيرها إلى الكبير ولا ينبئك مثل خبير و علاج حبها نوعان من العلم أحدهما معرفة الرب وحكمته في خلق الأمتعة المذكورة ومعرفة النفس والحكمة في ركوز حبها في الجملة في جبلتها فإنها إنما خلقت ليتمتع بها السالك في وجهته إلى الله الذي هو غاية مقاصد السايرين كما قال عز وجل وأن إلى ربك المنتهى وإلا إلى الله تصير الأمور فهي أشبه شئ لعلف الدابة في طريق الحج فإن البدن الذي هو مركب النفس لا يقوم إلا بمطعم وملبس فلا بد منهما بقدر الحاجة والاشتغال بالزيادة نظير توقف الحاج في منازل الطريق لجمع أنواع الحشيش وادخارها وتحصيل الماء البارد للناقة والجلال الملونة واشتغاله بذلك حتى يفوت الوقت والقافلة وهو غافل عن الحج ومرور القافلة وبقائه في البادية وحيدا فريسة للسباع هو وناقته والحاج البصير لا يهمه من أمر الناقة إلا القدر الذي تقوى به على المشي فيتعهدها وقلبه إلى الكعبة والحجاج والآخر معرفة شرف الآخرة ليرغب إليها وخساسة الدنيا ليرغب عنها فإن التاجر ما لم يعلم أن المرغوب إليه خير له من المرغوب عنه لم تسمح نفسه بالمعاملة ولم يفارق حب المرغوب عنه قلبه ويكمل ذلك بمعرفة المنافاة بينهما وأنهما كالمشرق والمغرب كلما تقاربت من أحدهما تباعدت من الآخر أو كالضرتين كلما أرضيت أحدهما أغضبت الأخرى فإذا انتقشت هذه المعارف في القلب عزف عن حب الدنيا وبردت رغبته فيها وفتر شوقه إليها فتركها والزهد الحقيقي كما عرفت هو عزوف القلب المستلزم للترك المذكور وبسبب هذه الملازمة ربما يتجوز باطلاق اسم الزهد على الترك سواء كان بسبب عزوف القلب أو غيره ويقسم على وجوه متعددة بحسب اعتباره في نفسه وفي علته وهو المزهود منه وفي محله وهو المزهود
(٦١)