أبي داود والترمذي وابن ماجة والبزار: أن يهوديا قال: لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم للجنازة هكذا يفعل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجلسوا وخالفوهم وفي إسناده بشر بن رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي. وقال البزار: تفرد به بشر وهو لين. قال الترمذي: حديث عبادة غريب. وقال أبو بكر الهمداني: ولو صح لكان صريحا في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الاسناد، وقد تمسك بهذه الأحاديث من قال: إن القيام للجنازة منسوخ، وقد تقد ذكرهم. قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الامر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا، وتعقبه النووي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع وهو ههنا ممكن. (واعلم) أن حديث علي باللفظ الذي سبق في الباب الأول لا يدل على النسخ لما عرفناك من أن فعله لا ينسخ القول الخاص بالأمة. وأما حديثه باللفظ الذي ذكره هنا فإن صح صلح النسخ لقوله فيه: وأمرنا بالجلوس ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبو داود، بل اقتصروا على قوله: ثم قعد.
وأما حديث ابن عباس فكذلك أيضا لا يدل على النسخ لما عرفت. وأما حديث عبادة بن الصامت فهو صريح في النسخ لولا ضعف إسناده، فلا ينبغي أن يستند في نسخ تلك السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من طريق جماعة من الصحابة إلى مثله، بل المتحتم الاخذ بها واعتقاد مشروعيتها، حتى يصح ناسخ صحيح، ولا يكون الامر بالجلوس، أو نهي عن القيام، أو إخبار من الشارع، بأن تلك السنة منسوخة بكذا، واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي عليه السلام وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الامر بالجلوس، مما يوجب عدم الاطمئنان إليها والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية، لا سيما بعد أن شد من عضدها عمل جماعة من الصحابة بها يبعد كل البعد أن يخفى على مثلهم الناسخ، ووقوع ذلك منهم بعد عصر النبوة.
ويمكن أن يقال: إن الامر بالجلوس لا يعارض بفعل بعض الصحابة بعد أيام النبوة، لأن من علم حجة علي من لم يعلم. وحديث عبادة وإن كان ضعيفا فهو لا يقصر عن كونه شاهدا لحديث الامر بالجلوس.