وتلافيت نفسا بلغت التراقي، وحبوت أهله مع معرفتي بفضل إذاعته إليهم، وفرط بصيرتي بما في إظهاره لديهم، من الثواب الجزيل، والذكر الجميل، والأحدوثة الباقية على مر الدهور، فلم يصان العلم بمثل بذله، ولن تستبقي النعمة فيه بمثل نشره.
قال بعض العلماء مادحا للعلم، وتخليده في الكتب " والكتاب قد يفضل صاحبه ويقدم مؤلفه، ويرجح قلمه على لسانه، وعقله على بيانه بأمور:
منها: إن الكتاب يقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، ثم يوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الأعصار وتباعد ما بين الأمصار، وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسألة والجواب، ومناقلة اللسان وهدايته لا يجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويفنى العاقل ويبقى أثره، ولهذا أثر الجلة من المحققين، وأهل العبر والفكرة من الديانين، وضع الكتب والاشتغال بها، واجتهاد النفس في تخليدها وتوريثها، على صوم النهار وقيام الليل، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجائب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا من الحكمة، وصعبت سبلنا إلى المعرفة، ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا، ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا لما أدركته حواسنا، وشاهدته نفوسنا، لقد قلت المعرفة، وقصرت الهمة، وانتقصت المنة، وعاد الرأي عقيما، والخاطر سقيما، ولكل الحد وتبلد العقل، فإن الكتاب نعم الذخر والعقد، ونعم الجليس والعقدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والرحيل، ونعم الوزير والنزيل.
والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي طرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا، إن شئت كان أبين من سحبان وآيل، وإن شئت كان أعني من ناقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ