وليعلم ويتذكر ان العقل كما لا يستطيع ان يطيق اشراق نور الأول تعالى ويتعقل كنه مجده وجلاله لغاية سطوع شمس كبريائه وفرط ظهوره وفعليته كذلك لا يقدر ان يتعقل الممتنع بالذات لفرط نقصه وبلوغه أقصى غاية النقصان إلى حيث تجاوز الشيئية فان الشئ لا ينفك عن الوجود فما لا وجود له لا شيئية له والعقل الانساني يقدر على ادراك ماهيات الأشياء وشيئياتها ولا يقدر على تعقل الوجود الصرف الذي لا شيئية له كما في الواجب جل اسمه ولا على تعقل العدم الصرف الذي لا شيئية له أيضا بوجه من الوجوه لكن هناك لفرط الكمال والفعلية وهاهنا لفرط النقصان والبطلان وكل ما يقرب من الأول تعالى كان يقرب منه في ذلك الحكم كالعقل الأول وما يتلوه وكل ما يقرب من الممتنع كان يقرب منه في الحكم كالهيولي الأولى وحركه وما يقربهما.
وملخص القول إن من المعلومات ما وجودها في غاية القوة مثل الواجب الوجود ويتلوه العقول المفارقة والجواهر الروحانية ومنها ما وجوده في غاية الضعف شبيه بالعدم لكونه مخالطا للعدم مثل الهيولى والزمان وحركه ومنها ما يكون متوسطا بين الامرين وذلك مثل الأجسام المادية عند القوم ومثل الأجسام التي في خيالنا عندنا إذ الجسم ما لم ينتزع صورته عن المادة نزعا ما لا يمكن العلم به كما سنحققه في مباحث الحواس والمحسوسات والعقول البشرية ما دامت مدبره لهذه الأبدان العنصرية تعجز عن ادراك القسم الأول كما يعجز ابصار الخفافيش عن ادراك نور الشمس لأنه يبهر ابصارها ويعجز أيضا عن ادراك القسم الثاني لضعف وجود تلك الأمور ونقصاناتها كما يعجز البصر عن ادراك المدركات البعيدة والصغيرة في الغاية فاما القسم الثالث فهو الذي يقوى القوة البشرية على ادراكه والإحاطة به كمعرفة الابعاد والاشكال والطعوم والألوان وسبب ذلك ان أكثر النفوس البشرية في هذا العالم مقامها مقام الخيال والحس والمدرك لا بد ان يكون من جنس المدرك كما أن الغذاء لا بد وأن يكون من جنس المغتذى فلذلك سهل عليها معرفه هذه الأمور