المحكم والمتشابه جميعا من عند ربنا (وما يذكر) أي: وما يتفكر في آيات الله، ولا يرد المتشابه إلى المحكم (إلا أولوا الألباب) أي: ذوو العقول.
فإن قيل: لم أنزل الله تعالى في القرآن المتشابه؟ وهلا جعله كله محكما؟
فالجواب: إنه لو جعل جميعه محكما لاتكل الناس كلهم على الخبر، واستغنوا عن النظر، ولكان لا يتبين فضل العلماء على غيرهم، ولكان لا يحصل لهم ثواب النظر، وإتعاب الخواطر في استنباط المعاني. وقال القاضي الماوردي: قد وصف الله تعالى جميع القرآن بأنه محكم بقوله: (آلر كتاب أحكمت آياته)، ووصف جميعه أيضا بأنه متشابه بقوله: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) فمعنى الإحكام: الإتقان والمنع أي: هو ممنوع بإتقانه وإحكام معانيه، عن اعتراض خلل فيه، فالقرآن كله محكم من هذا الوجه. وقوله متشابها أي: يشبه بعضه في الحسن والصدق والثواب، والبعد عن الخلل والتناقض، فهو كله متشابه من هذا الوجه.
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب [8] ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد [9]).
اللغة: الهبة: تمليك الشئ من غير مثامنة. والهبة والنحلة والصلة نظائر.
وفي لدن خمس لغات: لدن، ولدن بضم اللام والدال، ولدن بفتح اللام والدال، ولدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، ولد بحذف النون. والميعاد: بمعنى الوعد، كما أن الميقات: بمعنى الوقت.
الاعراب: اللام في قوله (ليوم لا ريب فيه): معناه في يوم، وإنما جاز ذلك لما دخل الكلام من اللام، فإن تقديره جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه. فلما حذف لفظ الجزاء، دخلت على ما يليه، فأغنت عن في لأن حروف الإضافة متواخية لما يجمعها من معنى الإضافة. وقد كان يجوز فتح أن في قوله (إن الله لا يخلف) على تقدير: جامع الناس ليوم لا ريب فيه لأن الله لا يخلف الميعاد، ولم يقرأ به.
المعنى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) هذه حكاية عن قولي الراسخين في العلم الذين ذكرهم الله في الآية الأولى، وذكر في تأويله وجوه أحدها: إن معناه لا تمنعنا لطفك الذي معه تستقيم القلوب، فتميل قلوبنا عن الإيمان، بعد إذ وفقتنا بألطافك، حتى هديتنا إليك. وهذا دعاء بالتثبيت على الهداية، والإمداد بالألطاف