أجمع الناس لدواعي الترفع، ثم كان أدناهم إلى التواضع، وذلك أنه كان أوسط الناس نسبا، وأوفرهم حسبا، وأسخاهم وأشجعهم، وأزكاهم وأفصحهم. وهذه كلها من دواعي الترفع. ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويعلف الناضح، ويجيب دعوة المملوك، ويجلس في الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يدعو إلى الله من غير زأر، ولا كهر، ولا زجر (1). ولقد أحسن من مدحه في قوله:
فما حملت من ناقة فوق ظهرها * أبر، وأوفى ذمة، من محمد وفي الآية أيضا ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسئ، وحثهم على الاستغفار لمن يذنب منهم، وعلى مشاورة بعضهم بعضا فيما يعرض لهم من الأمور، ونهيهم عن الفظاظة في القول، والغلظة والجفاء في الفعل، ودعائهم إلى التوكل عليه، وتفويض الأمر إليه. وفيها أيضا دلالة على ما نقوله في اللطف، لأنه سبحانه نبه على أنه لولا رحمته لم يقع اللين والتواضع، ولو لم يكن كذلك، لما أجابوه. فبين أن الأمور المنفرة منفية عنه، وعن سائر الأنبياء، ومن يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق، وهذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكبائر، لأن التنفير في ذلك أكثر.
(إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون [160]).
المعنى: لما أمر الله سبحانه نبيه بالتوكل، بين معنى وجوب التوكل عليه فقال:
(إن ينصركم الله) على من ناوأكم (فلا غالب لكم) أي: فلا يقدر أحد على غلبتكم، وإن كثر عدد من يناوئكم، وقل عددكم (وإن يخذلكم) أي: يمنعكم معونته، ويخل بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم إياه (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) الهاء عائدة إلى اسم الله على الظن، والمعنى على حذف المضاف، وتقديره: من بعد خذلانه يعني أنه لا ناصر لكم ينصركم بعد خذلان الله إياكم. ومن هاهنا معناه التقرير بالنفي في صورة الاستفهام أي: لا ينصركم أحد من بعده. وإنما تضمن حرف الاستفهام معنى النفي، لأن جوابه يجب أن يكون بالنفي، فصار ذكره