وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام، وما جاء في آية الأنفال من تقليل الأعداد. فإن قيل: كيف يصح تقليل الأعداد مع حصول الرؤية وارتفاع الموانع؟ وهل هذا إلا قول من جوز أن يكون عنده أجسام لا يدركها أو يدرك بعضها دون بعض؟ قلنا: يحتمل أن يكون التقليل في أعين المؤمنين بأن يظنوهم قليلي العدد، لا أنهم أدركوا بعضا دون بعض، لأن العلم بما يدركه الانسان جملة، غير العلم بما يدركه مفصلا، ولأنا قد ندرك جمعا عظيما بأسرهم، ونشك في أعدادهم حتى يقع الخلاف في حرز عددهم. فعلى هذا يكون الوجه تأويل تقليل الأعداد.
وقوله: (والله يؤيد بنصره من يشاء) النصر منه سبحانه على الأعداء يكون على ضربين: نصر بالغلبة، ونصر بالحجة. فالنصر بالغلبة إنما كان بغلبة العدد القليل للعدد الكثير، على خلاف مجرى العادة، وبما أمدهم الله به من الملائكة، وقوى به نفوسهم من تقليل العدة، والنصر بالحجة، وهو وعده المتقدم بالغلبة لإحدى الطائفتين لا محالة، وهذا ما لا يعلمه إلا علام الغيوب.
(إن في ذلك) أي: في ظهور المسلمين مع قلتهم، على المشركين مع كثرتهم، وتقليل المشركين في أعين المسلمين، وتكثير المسلمين في أعين المشركين (لعبرة لأولي الأبصار) أي: لذوي العقول، كما يقال لفلان: بصير بالأمور، ولا يراد به الإبصار بالحواس الذي يشترك فيه سائر الحيوان.
(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب [14]).
اللغة: الشهوات: جمع شهوة، وهي توقان النفس إلى المشتهى. يقال:
اشتهى يشتهي شهوة واشتهاء. والشهوة من فعل الله، ولا يقدر عليها أحد من البشر، وهي ضرورية فينا، فإنه لا يمكننا دفعها عن نفوسنا. والقناطير: جمع قنطار، وهو المال الكثير العظيم. وأصله من الإحكام، يقال: قنطرت الشئ: أحكمته.
والقنطر: الداهية. وقيل: أصله من القنطرة، وهو البناء المعقود للعبور.
والمقنطرة: المحصلة من قناطير، كقولهم: دراهم مدرهمة أي: مجعولة كذلك،