التحفة السنية (مخطوط) - السيد عبد الله الجزائري - الصفحة ٥١
وقد عاصرنا فيما مضى من عمرنا وهو دون الخمسين سنة بضعة عشر ملكا في فطرنا كل واحد منهم جالوت زمانه لم يمت أحد منهم على فراشه حتف أنفه إلا قتلا بالسيف في أسوء حال على أيدي أرذل الأرذال وهذه حال الدنيا وخساستها وأنه لو كانت تسوي عند الله جناح بعوضة لما سقي الكافر منها شربة ماء كما في المتفق عليه فكيف يرغب العاقل فيها وفي جاهها وأنه كمال وهمي لا حقيقي وحسبانه كمالا وعقد القلب عليه من أغاليط الوهم كما يغلط في غيره من المواضع وتلتبس عليه الأشياء بأضدادها وذلك لأنه أمر معرض للزوال بما يعترضه من الآفات المذكورة وغيرها ولو فرض سلامته عنها واستمراره لصاحبه مدة الحياة فلا ريب أنه يزول بالموت وهو مترقب في كل أن لو فرض انبساطه بحيث يسجد له جميع من في الأرض فعما قليل يفنى الساجد والمسجود ويلتحقون بالأولين من الملوك والمتذللين لهم ممن طحنهم الموت وقطع دابرهم وهكذا حال المال أيضا فإن من ملك خزاين الدنيا يفارقها عن قريب و يخرج منها صفر اليد كيوم قدم إلى الدنيا بل قدمها خالي الذهن خفيف الظهر وفارقها وفي قلبه من الحسرات ما لم يعلم به إلا الله وعليه من الأوزار أضعاف ذلك فالأعراض التي هذا حالها ما أبعدها عن الكمال الربوبي ولا سيما الجاه فإن فيه التشبه بالسباع من حيث التوسع في البطش والاعتداء و الشياطين من حيث التلطف إلى القلوب والمكيدة في جبلها والبهايم من حيث التسرع في الشهوات فإنها كلها من لوازمه غالبا وهي في غاية البعد عن صفات الربوبية وأما الكمال الحقيقي المقارب لها في الثبات والسلامة عن الزوال فمعرفته (تع) ومحبته المترتبة عليها وما يعين عليهما من الآلات و المقدمات العلمية والعملية لبقائه بعد الموت وابتهاج صاحبه به إذ ذاك وفيه التشبيه بالأنبياء المتخلقين بأخلاق الله والملائكة الذين لا يستفزهم الشهوة ولا يستهويهم الغضب وقد وقعت الإشارة إلى القسمين في قوله عز وجل المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا فتلخص مما ذكر أن الاستيلاء المعدود في بادي النظر كمالا ربانيا مطلقا ترجع أقسامه كلها إلى العلم والقدرة بنوعيها المالي والجاهي ليست من الكمال في شئ وإن سبق الوهم إلى ذلك وأما العلم فينقسم إلى ما يبقى وما يزول والزائل هو المتعلق بالممكنات من حيث هي هي وحكمه حكم القدرة والباقي هو المتعلق به (تع) وما يستتبعه كل شئ هالك إلا وجهه وهذا هو الكمال وما سواه جهل وضلال أو حسرة ووبال ومن عرف حق الكمال من باطله صغر الجاه في عينه إلا أنه إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب كما قال الله (تع) بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة فمن ثمة كان العلاج بما ذكر ضعيفا في حقهم والعلاج الأقوى هو العملي والمذكور هنا أمران أحدهما القناعة فإن من قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى عنهم لم يشتغل قلبه بهم ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن ولم يبال أكانت له في قلوبهم منزلة أم لا كما لا يبالي ذلك في قلوب الذين هم في أقصى الشرق وهذا إنما ينفع علاجا في الجاه المحبوب للمال والآخر الاغتراب إلى حيث يخمل ذكره ويكف نفسه عن التعرف إلى أهله واستحداث جاه جديد أما الاعتزال عن الناس في الوطن والتنزل عن المرتبة التي كان مترتبا عليها فربما يترائى أنه مما يمكن الخلاص به عن هذا الداء الدفين و آفاته لكنه لا يخلو عن مغالطة وذلك لمعرفة الناس به وتقرر منزلته في قلوبهم فربما يكون عزوف نفسه عن مخالطتهم وميلها إلى الانقطاع عنهم بسبب أنها ظفرت بمقصودها فسكنت ولو تعيروا عما اعتقدوه فيه أو نسبوه إلى أمر غير لايق جزعت نفسه وتألمت وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة الغبار عن قلوبهم وهذا علامة بقاء شئ من حب الجاه بعد في قلبه وأنه لما يفارقه المرض بالكلية فمن ثم كان الاغتراب أقوى وهذا مما ينفع في القسمين ثم إن الكلام في حب المدح ينساق مساق الكلام في الجاه لانشعابه عنه ويتبعه كراهة الذم والناس فيهما على مراتب متنزلة الأولى وهي الأولى كراهة المدح وحب الذم فيمقت المادح لأنه فتنة له ويحب الذام لأنه مهد إليه حسناته ومنتبه له على عيوبه وفي الحديث النبوي رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وفيه ويل للصايم وويل للقايم وويل لصاحب الصوف إلا من قيل يا رسول الله إلا من فقال إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحب المذمة وهذه شديدة عزيزة المنال جدا لا مطمع لنا فيها ومن ثم طواها المصنف ثم التسوية بين المدح والذم فلا تغمه المذمة ولا تسره المدحة وهذه قد يظنها بعض المجاهدين بنفسه فلا بد له من امتحانها وتعرف بعلاماتها وهي تسوية المادح والذام عنده في استثقال جلوسهما أو طوله عنده فلا يجد في نفسه استثقالا للذام أكثر مما يجده في المادح وتسويتهما في الفرح بسرورهما والغم بمصيبتهما فلا يكون فرحه بسرور المادح أو غمه بمصيبته أكثر من فرحه بسرور الذام وغمه بمصيبته ونحوه التسوية في نهضته لقضاء حوائجهما وتوحشه عن انقطاعهما عن مجلسه وعفوه عن زلتهما فمن وجد من نفسه هذه العلامات وأمثالها فهو من أهل هذه المرتبة وما أبعدها وأصعبها على القلوب وأكثر المتهذبين فرحهم بالمدح مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون وربما يشعر بعضهم بميل قلبه إلى المادح دون الذام فيعلله الشيطان بأن المادح قد أطاع الله بمدحك والذام قد عصاه بذمك فميلك إلى هذا وكراهتك لذاك من الدين وهو من الجهل المحض لأن في الناس من يعبد الله بأعظم من مدح المادح وهو لا يحبه حبه وفيهم من يعصيه بأكبر من ذم الذام ولا يكرهه كراهته وأيضا المادح الذي أطاع الله فيه قد يعصيه بمذمة غيره والذام الذي عصى الله فيه قد يطيعه بمدح غيره وهو لا يكره ولا يحب لذلك وعلامة الصدق التسوية بين مدحه ومدح الغير وذمه وذم الغير و
(٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 كتاب الطهارة 16
2 باب جرايم الجوارح 17
3 باب التوبة 24
4 باب التدارك 27
5 باب الحد والتعزير 28
6 باب الجناية 35
7 باب ذمايم القلب 40
8 باب الصبر 42
9 باب الحلم 45
10 باب النصيحة 47
11 باب حب الخمولة 49
12 باب التواضع 52
13 باب الفقر 57
14 باب الزهد 60
15 باب السخا 63
16 باب الرضا 65
17 باب الشكر 66
18 باب الرجاء والخوف 68
19 باب قصر الامل 70
20 باب النية 72
21 باب الاخلاص 75
22 باب الصدق 79
23 باب التوحيد والتوكل 80
24 باب تطهير السر عما سوى الله 83
25 باب الماء 88
26 باب الأخباث وتطهيرها 90
27 باب آداب التخلي 95
28 باب الاتفاث وازالتها 96
29 باب آداب التنظيف 97
30 باب الاحداث ورفعها 100
31 باب الوضوء 102
32 باب الغسل 104
33 باب التيمم 110
34 كتاب الصلاة 111
35 باب الشرايط 112
36 باب الأوقات 118
37 باب المكان 121
38 باب اللباس 125
39 باب القبلة 127
40 باب النداء 129
41 باب الهيئة 130
42 باب الآداب والسنن 132
43 باب المكروهات 135
44 باب وظائف يوم الجمعة والخطبتين 136
45 باب آداب العيدين وسننهما 137
46 باب آداب الآيات وسننها 138
47 باب الجماعة 139
48 باب الخلل 141
49 باب التعقيب 145
50 باب الدعاء 146
51 باب فضل قراءة القرآن 148
52 كتاب الزكاة 150
53 باب التعداد والشرايط 150
54 باب المقادير والنصب 153
55 باب المصرف 154
56 باب الأداء 155
57 باب الخمس 156
58 باب المعروف 158
59 باب آداب المعطى 159
60 باب آداب الآخذ 162
61 كتاب الصيام 163
62 باب الشرايط 165
63 باب الهيئة 167
64 باب الآداب 168
65 باب فوايد الجوع 173
66 باب الاعتكاف 174
67 كتاب الحج 175
68 باب الشرايط 177
69 باب الهيئة 178
70 باب المحرمات 181
71 باب الخلل 190
72 باب حرمة الحرم 195
73 باب الزيارات 196
74 كتاب الحسبة 198
75 باب الجهاد 198
76 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 201
77 باب إقامة الحدود 203
78 باب الفتيا 205
79 باب القضا 206
80 باب الشهادة 209
81 باب اخذ اللقيط 212
82 باب الحجر 212
83 كتاب البر 214
84 باب العطية 214
85 باب العتق 217
86 باب التدبير 219
87 باب الكتابة 220
88 باب النذر والعهد 220
89 باب اليمين 222
90 كتاب الكسب 224
91 باب الآداب 227
92 باب البيع 229
93 باب الربا 234
94 باب الشفعة 236
95 باب الشركة 237
96 باب القراض 238
97 باب الجعالة 240
98 باب الإجارة 242
99 باب المزارعة 244
100 باب المساقاة 245
101 باب احياء الموات 245
102 باب الغصب 248
103 باب اللقطة 250
104 باب السبق 251
105 باب الدين 252
106 باب الرهن 253
107 باب الضمان 254
108 باب الحوالة 255
109 باب الوكالة 256
110 باب الكفالة 257
111 باب الوديعة 258
112 باب الاقرار 259
113 باب الصلح 259
114 كتاب النكاح 260
115 باب التعداد والجدوى 260
116 باب المحارم 263
117 باب الولاية 271
118 باب العقد 272
119 باب الصداق 274
120 باب الخلوة 277
121 باب الحقوق 279
122 باب النشوز 281
123 باب الفسخ 282
124 باب الطلاق 284
125 باب الخلع والمباراة 286
126 باب الظهار 287
127 باب الايلاء 288
128 باب اللعان 289
129 باب العدد 290
130 باب الولد 294
131 باب القرابة 300
132 كتاب المعيشة 300
133 باب الطعام 301
134 باب الأكل 309
135 باب الشرب 312
136 باب الضيافة 313
137 باب اللباس 314
138 باب الطيب 315
139 باب المسكن 316
140 باب المنام 317
141 باب التحية 319
142 باب الكلام 321
143 باب الإخاء 326
144 باب المعاشرة 328
145 باب العزلة 333
146 باب الورد 335
147 باب السفر 338
148 كتاب الجنايز 343
149 باب المرض 343
150 باب الوصية 345
151 باب العيادة 346
152 باب الاحتضار 349
153 باب التغسيل 350
154 باب التكفين 351
155 باب التشييع والتربيع 353
156 باب الصلاة على الميت 354
157 باب الدفن 355
158 باب التعزية 357
159 باب الهدية للميت 357
160 باب زيارة القبر 358
161 كتاب الفرايض 358
162 باب الأسباب والطبقات 358
163 باب الموانع 360