لما كان أتم كانت معرفته بعبوديته واقراره بها أوفى وأكمل وكذا ما ورد في فضل المسكنة المرادف أو المقارب له في اطلاقاته من قوله صلى الله عليه وآله اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين وأما الفقر المذموم والمستعاذ منه في قوله صلى الله عليه وآله كاد الفقر أن يكون كفرا والفقر سواد الوجه في الدارين واللهم أعوذ بك من الفقر فمحمول على معنى الاضطرار فلا منافاة هذا ما قرره أبو حامد وغيره في الجمع ويمكن أن يخص الممدوح ببعض أحواله المحمودة كالزهد والرضا وهو خير من الاشتراك أو يراد بالممدوح معناه العرفي أعني فقد المال وبالمذموم ما يلزمه غالبا من اضطراب النفس و ضعف التوكل وقد أطلق عليه الفقر في بعض الروايات ففي معاني الأخبار فيما سأل علي بن أبي طالب (ع) ابنه الحسن (ع) أنه قال له ما الفقر قال الحرص والشرة وفي بعضها خص المذموم بوجه آخر ففي الصحيح عن أبي عبد الله (ع) قال الفقر الموت الأحمر فقيل الفقر من الدنانير والدراهم قال لا ولكن من الدين واختلاف الأنظار في ترجيح الراجح من الفقر والغنى والقول الفصل فيه أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره ينبغي أن يضاف إلى مقصوده إذ به يظهر فضيلته والدنيا ليست محذورة لعينها بل لكون الاشتغال بها عائقا عن الوصول إلى الله (تع) ولا الفقر مطلوب لعينه بل لأن فيه فقد العائق وعدم الشاغل عنه (تع) وكما أن الغنى قد يكون من الشواغل كذلك الفقر قد يكون منها وإنما الشاغل في الحقيقة حب الدنيا والمحب للشئ مشغول به سواء كان في فراقه أو وصاله وربما يكون الشغل في الفراق أكثر والشاغل عن الله مذموم دون غير الشاغل عنه فقرا كان أو غنى فإذا لا يمكن الترجيح المطلق من حيث الشغل بل نقول الراجح لكل أحد ما لا يشغله عن الله فإن كان الفقر يشغله فالغنى أولى به وإن كان الغنى يشغله فالفقر أولى به لما عرفت أن الفضل إنما هو في عدم تعلق القلب بالمال فإن تساويا فيه تساوت درجاتهما إلا أن ههنا من مزال الأقدام ومواقع الغرور فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفينا في باطنه وهو لا يشعر وإنما يشعر به إذا فقده فليجرب نفسه وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالا أو بعيدا فليطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل لأنه أبعد عن الخطر بحسب الدنيا والدين أما الأول فلأن الأغنياء محسودون مقصودون بالأذى بخلاف الفقراء وأما الثاني فلأن فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ومن ثم قالت الصحابة بلينا بفتنة الضراء فصبرنا وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر وعن الأنس بالدنيا وتأكد حبها في القلب المستلزم لطول الأمل وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال له رجل ما لي لا أحب الموت فقال هل معك مال قال نعم يا رسول الله قال قدم مالك أمامك فإن قلب المؤمن مع ماله إن قدمه أحب أن يلحقه وإن خلفه أحب أن يتخلف معه أو المراد الأنس بالتنعم والألفة بالتوسع في المشتهيات ولو مباحة فإنه ينجر إلى اقتحام الشبهات إذا لم يمكن التوصل إليها بالمكاسب المباحة لتتسر له نعمة المانوسة فتتكثر حاجاته إلى الناس وإلى المداهنة و المنافقة معهم ومنها تنشأ العداوة والبغضاء والحسد والغيبة وسائر المعاصي القلبية والجوارحية وعن القدرة على الشهوة ومن العصمة أن لا يقدر فإن المريض الذي لا يجد شيئا أصبر منه على الحمية إذا وجد الأطعمة اللذيذة وعن طول الحساب في عرصات القيامة اللازم على الأغنياء وإن أخذوه حلالا وصرفوه حلالا وقد ورد أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام فيأكلون ويشربون والناس يترددون في الحساب وعن الغرور وهو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع وفي حديث أمير المؤمنين عليه السلام يا صفراء ويا بيضاء غري غيري لا حاجة لي فيك وهو من شعب الأنس بالدنيا أو هو هو فهذه كلها غوائل الغنى والسلامة عنها جميعا عسرة جدا إلا للنفوس الكاملة الملكوتية وهم الأقل وخطاب الشرع إنما هو مع الأكثر فمن ثم ورد في فضل الفقر وذم الغنى ما ورد ولا يعارض بكون الغنى من أخلاق الله كما يحكى عن ابن عطاء في ترجيحه لما أجابه به بعض الشيوخ من أن ذلك ليس بالاعراض والأسباب فانقطع ولم ينطق والغنى بالأسباب كالتكبر دون الاستحقاق في أنه ليس من صفات الله ولا محمودا في العباد وإن وصف الله نفسه بالمتكبر والتقييد بدون الاستحقاق للاحتراز عن مثل تكبر المؤمن على الكافر والعادل على الفاسق فإنه محمود لا ضير فيه وما قيل إن على العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر والمطيع من العاصي و الانسان من البهيمة وأقرب إلى الله منها ولو رأى الانسان نفسه بهذه الصفة روية محققة لا يشك فيه لكانت صفة الكبر لائقة به وفضيلة في حقه إلا أنه لا سبيل له إلى معرفته لأن ذلك موقوف على الخاتمة وليس يدري كيف تتفق فلجهله بها وجب أن لا يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر إذ ربما يختم له بالايمان وله بالكفر فمغالطة لأن الكلام ليس في القرب إلى الله ولا في الكبر النفساني بل التكبر أعني الترفع وغيره مما ذكر فيما سلف وما ورد في الحث على اذلال الكافر والفاسق واسقاط حرمتهما والتكبر على المتكبر ونحو ذلك مما يدل على رجحان هذا النوع من التكبر فهو من باب الاستحقاق فليتأمل ولا بالقدرة على العبادات المالية كالزكاة والصدقة ومواساة المحتاجين ونحوها مما يفوز بثوابه الأغنياء ويحرم عنه الفقراء كما زعمه بعض المنتصرين له لأنها لم يندب إليها الفقراء الذين لاحظ لهم من الدنيا وإنما يندب إليها ذوو الدنيا و توجب الثواب لترك شئ من الدنيا في ضمن ما أتوا به من الانفاق كالتوبة الموجبة للثواب لترك الذنب المتوب عنه فإنه لا شك أن الكاف نفسه عن الذنب ابتداء أحق بالمتوبة من الذي أتى به واستحق العقوبة ثم تاب عنه والثواب المستحق بالعبادة المالية نظير الصحة المكتسبة بالفصد الموجب لاخراج ما اجتمع في البدن من الدم الفاسد فإن البدن الذي لم يجتمع فيه الدم الفاسد ولم يندب إلى الفصد لا ريب أنه أصح وأعدل مزاجا وأرجى عافية كما لا يخفى وأيضا فإن اليسار ليس غنى بالحقيقة وهذا منع بعد التسليم فعن أمير المؤمنين (ع) وهو سيد السالكين وإمام العارفين باتفاق الكل ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس وهو أن يستوي عنده وجود المال وعدمه فهو المضاهي بوجه من الوجوه للغنى الذي
(٥٨)