الأمر الثاني: قد يظهر من كلمات الأصوليين أيضا إن المزية الدلالية للحاكم توجب تقديمه على المحكوم بنحو التحكيم، من غير أن يكون هناك احتمال آخر في البين. والمراد بالتحكيم هو رفع اليد عن الشمول الافرادي للعام كالتخصيص، ولذلك لم يطرحوا فيه احتمال النسخ الذي ذكروه في تعارض العام والخاص. وربما كان مبنى هذا الرأي تصورهم للحكومة على إنها تفسير وشرح للمراد بالدليل المحكوم ولكنا أوضحنا فيما سبق إن التفسير والشرح إنما هو سمة لأسلوب الحاكم ولسانه وأما واقعه فهو واقع المعارضة والمنافاة كالدليل المخصص.
والصحيح إن نفس الاحتمالات والأبحاث الواردة بشأن الخاص والعام تأتي بالنسبة إلى الحاكم والمحكوم، لأنها لا ترتبط بأسلوب الخاص وإنما ترتبط بمحتواه المماثل لمحتوى الحاكم. ففيما إذا ورد الحاكم متأخرا عن وقت العمل بالمحكوم، يرد فيه احتمالات أخرى غير التحكيم.
منها: أن يحمل على النسخ بملاحظة ورود الحاكم بعد وقت العمل بالعام، والالتزام بالتحكيم يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وتأخير البيان وإن لم يكن ممتنعا على كل حال لكنه بحاجة إلى مصحح خاص.
ومنها: أن يحمل على الحكم الولائي فيما كان الموضوع مناسبا مع ذلك.
ومنها: أن يتصرف في ظهور الحاكم ويؤخذ بالدليل المحكوم كأن يحمل قوله (الفاسق ليس بعالم) على إن اكرام العالم الفاسق مرجوح في امتثال قوله (أكرم عالما) فيؤخذ باطلاق هذا الدليل وإن كان ظاهر الدليل الأول هو عدم كفاية اكرام العالم الفاسق في الامتثال، إلا إنه كتمت القرينة على إرادة المرجوحية لمصلحة مقتضية لذلك، وقد ذكرنا في مبحث تعارض الأدلة من علم الأصول المصالح المقتضية لكتمان القرائن كالتقية والسوق إلى الكمال والقاء الخلاف بين الشيعة وغير ذلك.