فلا يكون الحكم الصادر عن اللاحق ناسخا لما صدر عن السابق، لكون الجميع حاكيا عن ثبوت الحكم في زمان النبي (صلى الله عليه وآله). نعم لو ورد خاص عن النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم ورد عام منه (ص) يحتمل كونه ناسخا للخاص، لكنه لم يتحقق. ولعله لما ذكرناه - من عدم احتمال النسخ في الاخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) - لم يلتزم أحد من الفقهاء فيما نعلم بكون العام فيها ناسخا للخاص أو الخاص فيها ناسخا للعام. هذا تمام الكلام في التعارض بين الدليلين.
أما إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين، فهل تلاحظ الظهورات الأولية، أو لابد من ملاحظة الاثنين منها، وعلاج التعارض بينهما، ثم تلاحظ النسبة بين أحدهما والثالث المعارض له، فقد تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق، أو بالعكس على ما سيذكر إن شاء الله تعالى؟ اختار الشيخ وصاحب الكفاية (ره) عدم انقلاب النسبة، وأنه يلاحظ التعارض باعتبار الظهورات الأولية، بدعوى أنه لا وجه لسبق ملاحظة أحد الدليلين مع الاخر على الثالث. ولكن الصحيح هو انقلاب النسبة. وتحقيق هذا البحث يقتضي ذكر مقدمتين:
(المقدمة الأولى) - أن لكل لفظ دلالات ثلاث:
(الدلالة الأولى) - كون اللفظ موجبا لانتقال الذهن إلى المعنى وهذه الدلالة لا تتوقف على إرادة اللافظ، بل اللفظ بنفسه يوجب انتقال الذهن إلى المعنى، ولو مع العلم بعدم إرادة المتكلم، كما إذا كان نائما أو سكرانا، أو نصب قرينة على إرادة غير هذا المعنى، كما في قولنا: رأيت أسدا يرمي، فان ذهن المخاطب ينتقل إلى الحيوان المفترس بمجرد سماع كلمة (الأسد)، وإن كان يعلم أن مراد المتكلم هو الرجل الشجاع، بل هذه الدلالة لا تحتاج إلى متكلم ذي إدراك وشعور، فان اللفظ الصادر من غير لافظ شاعر أيضا، يوجب انتقال الذهن إلى المعنى.