ويترتب على ذلك: أن عدم التقدم بين عدم ضد ووجود ضد آخر أو بالعكس وعدم تفرع أحدهما على الآخر بحسب مقام الواقع والثبوت لا ينافي الترتب والتفرع بينهما بحسب مقام الإثبات والدلالة، بل قد عرفت أن ذلك من الواضحات، بداهة أن الدلالة الالتزامية متفرعة على الدلالة المطابقية، وفي مرتبة متأخرة عنها وإن لم يكن بين ذاتي المدلولين - أعني: المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي - تقدم وتأخر في مقام الثبوت والوقع أصلا، فإن ذلك لا يمنع عن كون دلالة الدليل على أحدهما في مرتبة سابقة على دلالته على الآخر، بل الأمر - طبعا - كذلك في جميع الأمور المتلازمة في الوجود خارجا.
فكلما دل الدليل على وجود أحد المتلازمين بالمطابقة دل على وجود الآخر بالالتزام، فتكون دلالته على وجود أحدهما في مرتبة متقدمة على دلالته على وجود الآخر، مع أنه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع. وكذا ما دل على وجود المعلول بالمطابقة لا محالة يدل على وجود العلة بالالتزام، فتكون دلالته على وجود المعلول في مرتبة سابقة على دلالته على وجود العلة، مع أن وجوده متأخر رتبة عن وجودها.
ولذا قسموا الدليل: إلى دليل إني ودليل لمي. والمراد بالأول: هو ما كان المعلول واقعا في طريق إثبات العلة يكون العلم بها معلولا للعلم به، أو كان أحد المعلولين واقعا في طريق إثبات المعلول الآخر. والمراد بالثاني: هو ما كانت العلة واقعة في طريق إثبات المعلول.
فالنتيجة من ذلك: هي أن عدم التقدم والتأخر بين شيئين رتبة بحسب مقام الواقع والثبوت لا يوجب عدم التقدم والتأخر بينهما بحسب مقام الإثبات والكشف أيضا، لوضوح أنه لا مانع من أن يكون كشف أحدهما والعلم به متقدما رتبة على كشف الآخر والعلم به، بل لا مانع من أن يكون كشف المتأخر رتبة متقدما على كشف المتقدم كذلك، كما هو الحال في الدليل الإني، بل هذا من البديهيات الأولية، ضرورة أن كل دليل دل على وجود شئ لا محالة يدل على عدم ضده ووجود لازمه أو ملزومه بالالتزام.