ومن المعلوم أن تلك الأفعال خارجة عن الاختيار حيث كان ترتبها عليها كترتب المعلول على العلة التامة. فلو كانت الإرادة أيضا علة تامة لوجود الأفعال فإذا ما هو نقطة الفرق بين الأفعال المترتبة على صفة الإرادة والأفعال المترتبة على صفة الخوف؟ إذ على ضوء هذه النظرية فهما في إطار واحد، فلا فرق بينهما إلا بالتسمية فحسب، من دون واقع موضوعي لها أصلا، مع أن الفرق بين الطائفتين من الأفعال من الواضحات الأولية.
ومن هنا يحكم العقلاء باتصاف الطائفة الأولى بالحسن والقبح العقليين، واستحقاق فاعلها المدح والذم، دون الطائفة الثانية. ومن الطبيعي أن هذا الفرق يرتكز على نقطة موضوعية، وهي: اختيارية الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية، لا على مجرد تسمية الأولى بالأفعال الاختيارية والثانية بالأفعال الاضطرارية، مع عدم واقع موضوعي لها. ومن ذلك يظهر: أن الإرادة تستحيل أن تكون علة تامة للفعل.
ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين:
الأول: أننا إذا افترضنا شخصا تردد بين طريقين: أحدهما مأمون من كل خطر على النفس والمال والعرض وفيه جميع متطلباته الحيوية وما تشتهيه نفسه، والآخر غير مأمون من الخطر وفيه ما ينافي طبعه ولا يلائم إحدى قواه ففي مثل ذلك - بطبيعة الحال - تحدث في نفسه إرادة واشتياق إلى اختيار الطريق الأول واتخاذه مسلكا له دون الطريق الثاني، ولكن مع ذلك نرى بالوجدان أن اختياره هذا ليس قهرا عليه، بل حسب اختياره وإعمال قدرته، حيث إن له - والحال هذه - أن يختار الطريق الثاني.
الثاني: إذا فرضنا أن شخصا سقط من شاهق ودار أمره بين أن يقع على ولده الأكبر المؤدي إلى هلاكه وبين أن يقع على ولده الأصغر ولا يتمكن من التحفظ على نفس كليهما معا فعندئذ - بطبيعة الحال - يختار سقوطه على ابنه الأصغر - مثلا - من جهة شدة علاقته بابنه الأكبر، حيث إنه بلغ حد الرشد والكمال من