جهة، وارتضى سلوكه من جهة أخرى. ومن البديهي أن اختياره السقوط على الأول ليس من جهة شوقه إلى هلاكه وموته وإرادته له، بل هو يكره ذلك كراهة شديدة ومع ذلك يصدر منه هذا الفعل بالاختيار وإعمال القدرة، ولو كانت الإرادة علة تامة للفعل لكان صدوره عنه محالا، لعدم وجود علته وهي الإرادة. ومن المعلوم استحالة تحقق المعلول بدون علته.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه أمران:
الأول: أن الإرادة في أية مرتبة افترضت بحيث لا يتصور فوقها مرتبة أخرى لا تكون علة تامة للفعل، ولا توجب خروجه عن تحت سلطان الإنسان واختياره.
الثاني: على فرض تسليم أن الإرادة علة تامة للفعل إلا أن من الواضح جدا أن العلة غير منحصرة بها. بل له علة أخرى أيضا، وهي: إعمال القدرة والسلطنة للنفس، ضرورة أنها لو كانت منحصرة بها لكان وجوده محالا عند عدمها، وقد عرفت (1) أن الأمر ليس كذلك.
ومن هنا يظهر: أن ما ذكره الفلاسفة (2) وجماعة من الأصوليين منهم: شيخنا المحقق (3) (قدس سره) من امتناع وجود الفعل عند عدم وجود الإرادة خاطئ جدا.
ولعل السبب المبرر لالتزامهم بذلك - أي: بكون الإرادة علة تامة للفعل مع مخالفته للوجدان الصريح ومكابرته للعقل السليم، واستلزامه التوالي الباطلة، منها:
كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغوا - هو التزامهم بصورة موضوعية بقاعدة " أن الشئ ما لم يجب لم يوجد " (4) حيث إنهم قد عمموا هذه القاعدة في كافة الممكنات بشتى أنواعها وأشكالها، ولم يفرقوا بين الأفعال الإرادية والمعاليل الطبيعية من هذه الناحية، وقالوا: سر عموم هذه القاعدة حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلة.
ومن الطبيعي أنه لا فرق في ذلك بين ممكن وممكن آخر. هذا من ناحية.