ولا تخيلوه فبدا لهم خير من الله لم يكونوا يحتسبونه وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقوله لا يسترقون أي لا يستدعون الرقية لإزالة ألم يصيبهم ولا يرقون أحدا من ألم يصيبه وجاء بالاستفعال للمبالغة وإنما رقى النبي ص واستعمل الطب في نفسه في مرضه لأنه يتأسى به فيتأسى به الضعيف والقوي فإنه رحمة للعالم وهكذا جميع الرسل فما حكمهم حكم أممهم فلا يقدح ذلك في مقامهم فلهم المقام المجهول حيث يظهرون لأممهم بصورة القوة والضعف فلا يعرف أحد لماذا ينسبهم من المقامات وقوله ولا يتطيرون فإن الطائر هو الحظ فهم خارجون عن حظوظ نفوسهم مشتغلون بما كلفهم الله به من الأعمال وفاء لما تستحقه الربوبية عليهم لا يبتغون بذلك حظا لنفوسهم من الأجر الذي وعد الله به على ما هم عليه من الأعمال فلم يبعثهم على العمل ما نيط به من الأجر ولكن ما ذكرناه من وفاء المقام فهذا معنى لا يتطيرون أي لا يعملون على الحظوظ وقوله ولا يكتوون فإن الاكتواء لا يكون إلا بالنار وقد عصمهم الله أن تمسهم النار فيجدون في نفوسهم أنهم لا يكتوون وتلك عصمة إلهية من حيث لا يشعرون وقوله وعلى ربهم يتوكلون أي يتخذونه وكيلا فيتكلون عليه اتكال الموكل على الوكيل وهي معرفة وسطي جاءتهم من القصد الثاني فرأوا إن الله خلق الأشياء لهم وخلقهم له فاتخذوه وكيلا فيما خلق لهم ليتفرغوا إلى ما خلقوا له وإنما قلنا مرتبة وسطي لأن فوقها المرتبة العالية وهو القصد الأول فإن الله ما خلق شيئا من العالم كله إلا له ليسبحه بحمده وننتفع نحن بحكم العناية والتبعية والقصد الثاني هو هذا لأنه لما سوانا وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه قصدان في الخلق في العالم الإنساني وغير الإنساني من يتوكل عليه في أمره كله لأنه مؤمن بأن لله تعالى في كل شئ وجها ولا يقول به إلا المؤمن إذ كان غير المؤمن من الناس خاصة من يقول إن الله ما وجد عنه بطريق العلية إلا واحد ولا علم له بجزئيات العالم على التفصيل إلا بالعلم الكلي الذي يندرج فيه جميع العلم بالجزئيات فلهذا جعل التوكل في المؤمنين قال تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فجعل التوكل علامة على وجود الايمان في قلب العبد ولم يتخذه وكيلا إلا طائفة مخصوصة من المتوكلين المؤمنين الذين امتثلوا أمر الله في ذلك في قوله فاتخذه وكيلا فيتخيل من لا علم له بالوجود في الأشياء إنك صاحب المال فاتخذته وكيلا سبحانه فيما هو ملك لك وأن إضافة الأموال إليك بقوله أموالكم إضافة ملك وما علم إن تلك الإضافة إضافة استحقاق كسرج الدابة وباب الدار لا إضافة ملك والذي نراه نحن والأكابر إن الله قال لنا وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فما هو لنا فوكلناه واتخذناه وكيلا في الإنفاق الذي هو ملكنا لعلمنا بعلم الوكيل بالمصالح ومواضع الإنفاق التي لا يدخلها حكم الإسراف ولا التقتير فتولى الله الإنفاق علينا بأن ألهمنا حيث ننفق ومتى ننفق فإن النفقة على أيدينا تظهر فيدنا يد الوكيل في الإنفاق فنحن معصومون في الإنفاق لمعرفتنا بالوجوه ولأن يدنا يد حق فإنها يد الوكيل وهذا لا يعلم إلا بالكشف الإلهي فهم بهذه المثابة في التوكل وما يشعرون بذلك لأنه قال بغير حساب فهم على غير بصيرة وأفعالهم أفعال أهل البصائر عناية إلهية يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم والفضل الزيادة واعلم أن العالم لما كان أصله أن يكون مربوطا وجوده بالواجب الوجود لنفسه كان مربوطا بعضه ببعض فيتسلسل الأمر فيه إذا شرع الإنسان ينظر في العلم به فيخرجه من شئ إلى شئ بحكم الارتباط الذي فيه ولا يكون هذا إلا في علم أهل الله خاصة فلا يجري على قانون العلماء الذين هم علماء الرسوم والكون فقانونهم ارتباط العالم بعضه ببعض فلهذا تراهم يخرجون من شئ إلى شئ وإن كان يراه عالم الرسوم غير مناسب وهذا هو علم الله ومعلوم أن المناسبة ثم ولكن في غاية الخفاء مثل قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فجاء بآية الصلاة وقبلها آيات النكاح والطلاق وبعدها آيات الوفاة والوصية وغير ذلك مما لا مناسبة في الظاهر بينهما وبين الصلاة وأن آية الصلاة لو زالت من هذا الموضع واتصلت الآية التي بعدها بالآيات التي قبلها لظهر التناسب لكل ذي عينين فهكذا علم أولياء الله تعالى (سئل) الجنيد عن التوحيد (فأجاب) السائل بأمر فقال له لم أفهمه أعد علي فأجابه بأمر آخر فقال السائل لم أفهمه فأجابه بأمر آخر ثم قال له هكذا هو الأمر فقال أمله علي فقال إن كنت أجريه فإنا أمليه يقول إني لا أنطق عن هوى بل ذلك علم الله لا علمي فمن علم القرآن وتحقق به علم علم أهل الله وأنه لا يدخل تحت فصول منحصرة ولا يجري على
(٢٠٠)