(الباب الثالث والأربعون وثلاثمائة في معرفة منزل سرين في تفصيل الوحي من حضرة حمد الملك كله) لقد فصل الله آياته * لكل لبيب بعيد المدى وأحكمها لقلوب زكت * ولم تتبع غير سبل الهدى ونطق من لم يزل ناطقا * لأسماعنا ناشدا منشدا فحير ألبابنا نطقه * وجاء بنور الهدى فاهتدى بصير بأنواره ظاهر * له المنتهى وله المبتدى اعلم أيدك الله أن الإسمين الإلهيين المدبر والمفصل هما رأسا هذا المنزل اللذان يهبان للداخل فيه جميع ما يحمله وما يتضمنه من العلوم الإلهية مما يطلب الأكوان ومما يتعلق بالله وحكم المدبر في الأمور أحكامها في حضرة الجمع والشهود وإعطاؤها ما تستحقه وهذا كله قبل وجودها في أعيانها وهي موجودة له فإذا أحكمها كما ذكرناه أخذها المفصل وهذا الاسم مخصوص بالمراتب فأنزل كل كون وأمر في مرتبته ومنزلته كأمير المجلس عند السلطان ثم إن المدبر لما خلق الله رحمتين وهما أول خلق خلقه الله الرحمة الواحدة بسيطة وخلق الرحمة الأخرى مركبة فرحم بالبسيطة جميع ما خلق الله من البسائط ورحم بالمركبة جميع ما خلق الله من المركبات وجعل للرحمة المركبة ثلاثة منازل لأن المركب ذو طرفين وواسطة والواسطة عين البرزخ الذي بين الطرفين حتى يتميزا فيرحم كل مرحوم من المركب بالرحمة المركبة من هذه المنازل فبالرحمة الأولى المركبة ضم أجزاء الأجسام بعضها إلى بعض حتى ظهرت أعيانها صورا قائمة وبالرحمة الثانية المركبة من المنزل الثاني ركب المعاني والصفات والأخلاق والعلوم في النفس الناطقة والنفس الحيوانية الحاملة للقوى الحسية وبالرحمة الثالثة المركبة ضم النفوس الناطقة إلى تدبير الأجسام فهو تركيب روح وجسم وهذا النوع من التركيب هو الذي يتصف بالموت فأبرز المدبر هذه النفوس من أبدانها بتوجه النفخ الإلهي عليها من الروح المضاف إليه تعالى فركبها المدبر مع الجسم الذي تولدت عنه وهو تركيب اختيار ولو كان تركيب استحقاق ما فارقه بالموت وجعله مدبرا لجسد آخر برزخي والحق هذا بالتراب ثم ينشئ له نشأة أخرى يركبه فيها في الآخرة فلما اختلفت المراكب علمنا أن هذا الجسم المعين الذي هو أم لهذه النفس الناطقة المتولدة عنه ما هي مدبرة له بحكم الاستحقاق لانتقال تدبيرها إلى غيره وإنما الجسم الذي تولدت عنه على هذه النفس له من الحق إنها ما دامت مدبرة له لا تحرك جوارحه إلا في طاعة الله تعالى وفي الأماكن والأحوال التي عينها الله على لسان الشارع لها هذا ما يستحقه عليها هذا الجسم لما له عليها من حق الولادة فمن النفوس من هو ابن بار فيسمع لأبويه ويطيع وفي رضاهما رضي الله قال عز وجل أن اشكر لي من الوجه الخاص ولوالديك من الوجه السببي ومن النفوس ما هو ابن عاق فلا يسمع ولا يطيع فالجسم لا يأمر النفس إلا بخير ولهذا يشهد على ابنه يوم القيامة جلود الجسم وجميع جوارحه فإن هذا الابن قهرها وصرفها حيث يهوى وقسم الله هذه الرحمة المركبة على أجزاء معلومة أعطى منها جبريل ستمائة جزء بها يرحم الله أهل الجنة وجعل بيده تسعة عشر جزءا يرحم بهذه الأجزاء أهل النار الذين هم أهلها يدفع بها ملائكة العذاب الذي هم تسعة عشر كما قال تعالى عليها تسعة عشر وأما المائة رحمة التي خلقها الله فجعل منها في الدنيا رحمة واحدة بها رزق عباده كافرهم ومؤمنهم وعاصيهم ومطيعهم وبها يعطف جميع الحيوان على أولاده وبها يرحم الناس بعضهم بعضا ويتعاطفون كما قال الله إن المؤمنين بعضهم أولياء بعض والظالمين بعضهم أولياء بعض والمنافقين بعضهم أولياء بعض كل هذا ثمرة هذه الرحمة فإذا كان في الآخرة يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى التسعة والتسعين رحمة المدخرة عنده فرحم بها عباده على التدريج والترتيب الزماني ليظهر بهذا التأخير مراتب الشفعاء وعناية الله بهم وتميزهم على غيرهم فإذا لم يبق في النار إلا أهلها القاطنون بها الذين لا خروج لهم منها وأرادت ملائكة العذاب التسعة عشر عذاب أهل النار تجسد من الرحمة المركبة تسعة عشر ملكا فحالوا بين ملائكة العذاب وأهل النار ووقفوا دونهم وعضدتهم الرحمة التي وسعت كل شئ فإن ملائكة العذاب قد وسعتهم الرحمة كسائر الأشياء فيمنعهم ما وسعهم منها عن مقاومة هذه
(١٧١)