منقول بين معقول وغير معقول وليس يدرك هذه الأغوار إلا أهل الأسرار والأنوار وأولو البصائر والأبصار فمن انفرد بسر بلا نور أو بنور بلا سر أو ببصيرة دون بصر أو ببصر دون بصيرة أو بظاهر دون باطن أو بباطن دون ظاهر كان لما انفرد به ولم يحصل على كمال وإن اتصف به وإن كان تاما فيما هو عليه ولكن الكمال هو المطلوب لا التمام فإن التمام في الخلق والكمال فيما يستفيده التام ويفيده ومتى لم تحصل له هذه الدرجة مع تمامه فإن الله أعطى كل شئ خلقه فقد تم ثم هدى لاكتساب الكمال فمن اهتدى فقد كمل ومن وقف مع تمامه فقد حرم رزقنا الله وإياكم الفوز والوصول إلى مقام العجز إنه الولي المحسان (الوصل الثاني والعشرون) من خزائن الجود وهذه خزانة الفترات فتوهم انقطاع الأمور وما هي الأمور منقطعة وما يصح أن تنقطع لأن الله لا يزال العالم محفوظا به فلا يزل حافظا له فلو انقطع الحفظ لزال العالم فإن الله ما هو غني عن العالم إلا لظهوره بنفسه للعالم فاستغنى إن يعرف بالعالم فلا يدل عليه الغير بل هو الدليل على نفسه بظهوره لخلقه فمنهم من عرفه وميزه من خلقه ومنهم من جعله عين خلقه ومنهم من حار فيه فلم يدر أهو عين خلقه أم هو متميز عنه ومنهم من علم أنه متميز عن الخلق والخلق متميز عنه ولكن لا يدري بما ذا تميز خلق عن حق ولا حق عن خلق ولهذا حار أبو يزيد فإنه علم إن ثم في الجملة تمييزا وما عرف ما هو حتى قال له الحق التمييز في الذلة والافتقار فحينئذ سكن وما قال له النصف الآخر من التمييز وهو الغني الإلهي عن العالم فإن قلت الذلة والافتقار يغني قلنا في الشاهد لا يغني لما نشاهده من الذلة لذليل ومن الافتقار لفقير فإن الله قد جعل العالم على مراتب ودرجات مفتقرا بعضه إلى بعض ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا فجعل العالم فاضلا مفضولا ولما كان الأمر الحق فيما نبه الله عليه أبا يزيد نبهنا بذلك على علم قوله يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد أي المثنى عليه بكل ما يفتقر إليه فالعالم كله أسماؤه الحسنى وصفاته العلياء فلا يزال الحق متجليا ظاهرا على الدوام لأبصار عباده في صور مختلفة عند افتقار كل إنسان إلى كل صورة منها فإذا استغنى من استغنى عن تلك الصورة فهي عند ذلك المستغني خلق فإذا عاد افتقاره إليها فهي حق واسمها هو اسم الحق وفي الظاهر لها فيتخيل المحجوب أنه افتقر إليها وذل من أجل حاجته إليها وما افتقر وذل إلا لله الذي بيده ملكوت كل شئ فالناس في واد والعلماء بالله في واد وأما التفاضل الظاهر في العالم فمجهول عند بعض الناس ومعلوم عند بعضهم ومنهم المخطئ فيه والمصيب وذلك أن العالم قسمه الله في الوجود بين غيب وشهادة وظاهر وباطن وأول وآخر فجعل الباطن والآخر والغيب نمطا واحدا وجعل الأول والظاهر والشهادة نمطا آخر فمن الناس من فضل النمط الذي فيه الأولية ومن الناس من فضل النمط الذي فيه الآخرية ومن الناس من سوى مطلقا ومن الناس من قيد وهم أهل الله خاصة فقالوا النمط الذي فيه الآخرية في حق السعداء خير وفي حق الأشقياء ما هو خير وإن أهل الله تعلقهم بالمستقبل أولى من تعلقهم بالماضي فإن الماضي والحال قد حصلا والمستقبل آت فلا بد منه فتعلق الهمة به أولى فإنه إذا ورد عن همة متعلقة به كان لها لا عليها وإذا ورد عن غير همة متعلقة به كان إما لها وإما عليها وإنما أثر فيه تعلق الهمة أن يكون لها لا عليها لما يتعلق من صاحب الهمة من حسن الظن بالآتي والهمم مؤثرة فلو كان إتيانه عليه لا له لعاد بالهمة له لا عليه وهذه فائدة من حافظ عليها حاز كل نعيم فإذا ورد الآتي على ذي همة متعلقة بإتيانه بادر إلى الكرامة به والتأدب معه على بصيرة وسكون وحسن تأن في ذلك بخلاف من يفجأه الآتي فيدهش ويحار في كيفية تلقيه ومعاملته وهو سريع الزوال فربما فارق الحال ومضى وما قام صاحب الدهش بحقه وبما يجب عليه من الأدب معه بخلاف المستعد غير إن المستعد للآتي لا بد إن كان كاملا إن يحفظ الماضي فإنه إن لم يحفظه فاته خيره وقد جعل الله في العبد من خزائن الجود خزانة الحفظ فيكون عليه جعله في تلك الخزانة فهو صاحب حال في الحال وفي الماضي فما يبقى له إلا الآتي مع الأنفاس فلا تزال القوة الحافظة على باب خزانة الحفظ تمنع إن يخرج منها ما اختزنته فيها وتأخذ ما فارق الحال فتخزنه فيها ولهذه القوة الحافظة سادنان الواحد الذكر وقد وكلته بحفظ المعاني المجردة عن المواد والسادن الآخر الخيال وقد وكلته بحفظ المثل
(٤٠٥)