(الوصل الثالث والعشرون) من خزائن الجود وهذه خزانة الاعتدال وإعطاء كل ذي حق حقه فهي خزانة العدل لا خزانة الفضل من هذه الخزانة يقيم الله العدل في العالم بين عباده وهي خزانة ينقطع حكمها ويغلق بابها وإن خزانة الفصل تنعطف عليها وإن الله يأمر بالعدل لما فيه من الفضل لمن أخذ له بالحق والإحسان معطوف على العدل في الأمر به فيكون من ظهر فيه سلطان العدل وأخذ بجريمته أن يعطف عليه بالإحسان فينقضي أمر المؤاخذة ولا ينقضي أمد الإنعام والإحسان وقد يكون الإحسان ابتداء وجزاء للإحسان الكوني كما جاء في قوله تعالى هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وقوله سبحانه للذين أحسنوا الحسنى جزاء وزيادة الإحسان بعد العدل والإحسان قبل المؤاخذة وجزاء سيئة سيئة مثلها فمتى عفا وأصلح ولم يجاز بالسيئة على السيئة فهو أولى فأجره على الله أي هذه صفة الحق فيمن عفي عنه فيما هو حق له معرى عن حق الغير فإقامة العدل إنما هو في حق الغير لا فيما يختص بالجناب الإلهي فما كان الله ليأمر بمكارم خلق ولا يكون الجناب الإلهي موصوفا به ولهذا جعل أجر العافين عن الناس على الله وهذه الخزانة أرسلت حجب الأسرار دون أعين الناس وهو ما أخفى الحق عنهم من الغيوب وهو قوله تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه لا يحيط من علم غيب الله إلا بما شاء الله كما رفعت الستور وانكشفت الأنوار فأدركت البصائر بها كل معقول وأدركت الأبصار بها كل مبصر فأحاط العقل بهذه الأنوار كلما يمكن أن يدرك عقلا وأحاط البصر بهذه الأنوار كلما يمكن أن يدرك حسا وهذا لخصوص عباده المصطفين الأخيار فلهم الكشف الدائم للخلق الجديد فلا يتناهى كشفهم كما لا يتناهى الخلق الجديد في العالم ثم إن هذه الخزانة تعطي في العلم الإلهي علم الفاعل والفعل والمفعول والمفعول فيه والمفعول به والمفعول معه فيقف على التكوين الإلهي والتكوين الكياني فيعلم إن لكل فاعل طريقا يخصه في نسبة الفعل إليه فأما أهل الكرم والجود على الغير فإن الله يمكنه من أسباب الخير ويهون عليه الشدائد ويرفع عنه الأمور المحرجة ويخرجه من الظلمات إلى النور ومن الضيق إلى السعة ومن الغي إلى الرشد وأما من نظر في الحقائق ورأى نفسه أحق بنظره إليها من نظره إلى غيره وإن نظره إلى غيره إنما جعله الله ليعود بما فيه من الخير على نفسه فغفل عن كل شئ سواه فشغل نفسه بنفسه وصرف همته إلى عينه وأعطاها من كل شئ أعطاه الحق حقها فاستغنى بربه وكشف له عن ذاته ورأى جميع العالم في حضرته ورأى الرقائق بينه وبين كل جزء من العالم فعمد يحسن إلى العالم من نفسه على تلك الرقيقة التي بين ما يناسب من العالم وبين المناسب له فيوصل الإحسان لكل ما في العالم بهمته من الغيب كما يوصله الحق من الأسباب فيجهله العالم لأنه لا يشهده في الإحسان كما يجهل الحق بالأسباب فيقول لولا كذا ما كان كذا ونسي الحق في جنب السبب فلا بد أن ينسى هذا العبد الكامل وكما أن لله عبادا وإن وقفوا مع الأسباب يقولون هذا من عند الله ليس للسبب فيه حكم كذلك لله عباد يقولون هذا ببركة فلان وهمته ولولا همته ما جرى كذا وما دفع الله عنا كذا ومنهم من يقول ذلك عقدا وإيمانا ومنهم من يقول ذلك عن غلبة ظن فهذا عبد قد أقامه الحق في قلوب عباده مقامه في الحالين فالناس ينطقون بذلك ولا يعرفون أصله وقد ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله ص قال لأصحابه من الأنصار في واقعة وقعت في فتح مكة في غزوة حنين فقال لهم ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي فذكر نفسه ووجدتكم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله بي وهذا معنى قول الناس هذا ببركة فلان وهذا بهمة فلان وقولهم اجعلني في خاطرك وفي همتك ولا تنساني وأشباه هذا فمن أعرض عن هذه المشاهد ولم يفرق بين المشهود والشاهد فذلك الحائر الخاسر كما أن الآخر هو الرابح في تجارته المقسط بصفقته والرابحون انقسموا إلى قسمين إلى عاملين على الجزاء وإلى عاملين على الوفاء فالعاملون على الجزاء لهم نعوت تخصهم والعاملون على الوفاء على قسمين عمال لا عمال وعمال عمال والعمال العمال على قسمين عمال بحق وعمال بأنفسهم وكلاهما قائل بالجزاء والعمال لا عمال يرون الجزاء للعمل لا للعامل والعمل لا يقبل نعيم الجزاء فيعود عليهم جزاء العمل وأما جزاء العامل فهم يرون العامل هو الله وليس بمحل للجزاء لأن الجزاء على قدر العامل فيحصلون على الجزاء الإلهي وهو القصور عن الوفاء بما يستحقه العامل فهو جزاء لما قام بالعلماء بالله في الثناء عليه بمحامده وهو
(٤٠٧)