فتارة يكون قوام تحققها غير موقوف على اعتبار معتبر أصلا، بل هي نفسها متحققة يدركها العقل ويظفر بها، وهي أقسام تعم ما في الوجود كلها: من الواجب الوجود والجواهر والأعراض بأنواعهما، بل وتعم - فيما أردنا منه هنا - الأمور الانتزاعية وما يعبر عنه ب " الخارج المحمول " كالإمكان، والعلية، والمعلولية، فإن ملاحظة الشئ كافية في إدراك تعلقه بالعلة الذي هو الإمكان، في بعض معانيه، مع أن الإمكان ليس أمرا عينيا في عين أنه ليس من قبيل أنياب الأغوال.
وتارة يكون المعنى بحيث لا يتحقق في الخارج، حتى في أدنى مراتب التحقق الذي كان لمثل مفهوم الإمكان إذا لوحظ نفسه، إلا إذا اعتبره من بيده الاعتبار، وذلك مثل القوانين التشريعية التي يضعها ويصوبها مجالس التقنين، فإن هذه القوانين أمور متحققة عند العقلاء وإن مات واضعوها، إلا أنها ليس لها حظ من الوجود الخارجي أصلا، حتى الضعيف الذي كان للأمور الانتزاعية، بل هو معدوم عن عالم الأعيان، وإنما يكون موجودا في عالم الاعتبار، ويكون موضوعا لآثار عديدة عقلائية، ومن هذا القبيل حقيقة المعاملات، فالبيع - مثلا - قرار عقلائي يبقى بعد إنشائه بشرائطه، ويقبل الفسخ والإمضاء، وهو موجود في عالم الاعتبار وببركة اعتبار العقلاء، من دون أن يكون له أثر في الوجود الخارجي العيني أصلا.
نعم، إن هذه الأمور الاعتبارية، إذا تحققت في عالم الاعتبار، فوجودها الاعتباري ربما كان كافيا لانتزاع بعض المفاهيم عنها، مما لا يعتبر في منشأ انتزاعه خصوص الوجود الخارجي، فإذا أناط المقنن وجوب أمر بحصول شرط في الخارج، كما لو قال: " من بلغ ثماني عشرة سنة من عمره فعليه خدمة النظام العسكري " فالمجعول في عالم الاعتبار وإن كان وجوب خدمة النظام إلا أن الإناطة المذكورة توجب انتزاع الشرطية عن بلوغ ذاك المقدار من العمر، لمجرد إناطة الوجوب به، كما ينتزع الشرطية عن المحاذاة الخاصة اللازمة في احتراق الخشب - مثلا - بالنار.
فالشرطية معنى واحد انتزاعي، إلا أن منشأ انتزاعها أعم من أن يكون أمرا