سورة يونس الآية (99 - 100) قوله (ولقد بوأنا) هذا من جملة ما عدده الله سبحانه من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، ومعنى بوأنا:
أسكنا، يقال بوأت زيدا منزلا: أسكنته فيه، والمبوأ اسم مكان أو مصدر، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب، فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق، والمراد به هنا المنزل المحمود المختار، قيل هو أرض مصر. وقيل الأردن وفلسطين، وقيل الشام (ورزقناهم من الطيبات) أي المستلذات من الرزق (فما اختلفوا) في أمر دينهم وتشعبوا فيه شعبا بعد ما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة (حتى جاءهم العلم) أي لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها، وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم - وقيل المعنى: أنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم، وهو القرآن النازل على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به من آمن منهم وكفر به من كفر. فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول هم اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها، وعلى القول الثاني هم اليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) فيجازى المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، والمحق بعمله بالحق والمبطل بعمله بالباطل (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) الشك في أصل اللغة: ضم الشئ بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه فيتردد ويتحير، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره كما ورد في القرآن في غير موضع. قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان: معنى (فإن كنت في شك) أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) يعني مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله، وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ويقرون بأنهم أعلم منهم، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا، فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقا، وأن هذا رسوله، وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر.
وقال القتيبي: المراد بهذه الآية من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بتصديقه، بل كان في شك. وقيل المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا غيره. والمعنى: لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك، وقيل الشك هو ضيق الصدر: أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم.
وقيل معنى الآية: الفرض والتقدير، كأنه قال له: فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا، فاسأل الذين يقرءون الكتاب، فإنهم سيخبرونك عن نبوتك وما نزل عليك، ويعترفون بذلك لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضيا للكتم عندهم. قوله (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) في هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع