الآية، ويدل على هذا قولهم من بعد (وتطمئن قلوبنا) وأما على القراءة الأولى، فالمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك. قال الزجاج: المعنى هل تستدعى طاعة ربك فيما تسأله فهو من باب - واسأل القرية -، والمائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، من مادة: إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه قاله قطرب وغيره، وقيل هي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية قاله أبو عبيدة، فأجابهم عيسى عليه السلام بقوله (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) أي اتقوه من هذا السؤال وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة، وقيل إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه. قوله (قالوا نريد أن نأكل منها) بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة، وكذا ما عطف عليه من قولهم (وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) والمعنى: تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله، أو بأنك مرسل إلينا من عنده، أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه، ونعلم علما يقينا بأنك قد صدقتنا في نبوتك، ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية، أو من الشاهدين: أي الحاضرين دون السامعين.
ولما رأي عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء) أي كائنة أو نازلة من السماء، وأصل اللهم عند سيبويه وأتباعه: يا الله، فجعلت الميم بدلا من حرف النداء، وربنا نداء ثان، وليس بوصف، و (تكون لنا عيدا) وصف لمائدة. وقرأ الأعمش " يكون لنا عيدا " أي يكون يوم نزولها لنا عيدا. وقد كان نزولها يوم الأحد، وهو يوم عيد لهم، والعيد واحد الأعياد، وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد، وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود، ذكر معناه الجوهري، وقيل أصله من عاد يعود: أي رجع فهو عود بالواو، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد، فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان، لأنهما يعودان في كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه. قوله (لأولنا وآخرنا) بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل: أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم. قوله (وآية منك) عطف على عيدا: أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته (وارزقنا) أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة، أو ارزقنا رزقا نستعين به على عبادتك (وأنت خير الرازقين) بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك، فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام فقال (إني منزلها) أي المائدة (عليكم).
وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول وهو الحق لقوله سبحانه (إني منزلها عليكم) ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد. وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه. وقال الحسن: وعدهم بالإجابة، فلما قال (فمن يكفر بعد منكم) استغفروا الله وقالوا لا نريدها. قوله (فمن يكفر بعد منكم) أي بعد تنزيلها (فأنى أعذبه عذابا) أي تعذيبا (لا أعذبه) صفة لعذابا. والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب: أي لا أعذب مثل ذلك التعذيب (أحدا من العالمين) قيل المراد عالمي زمانهم. وقيل جميع العالمين، وفى هذا من التهديد والترهيب مالا يقادر قدره.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت:
كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا (هل يستطيع ربك) إنما قالوا: هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هل تستطيع ربك) بالتاء يعني الفوقية. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: المائدة الخوان، وتطمئن: توقن.