وقيل إن (شئ) هنا موضوع موضع اسم الله تعالى. والمعنى: الله أكبر شهادة: أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم، وقيل إن قوله (الله شهيد بيني وبينكم) هو الجواب، لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل إنه قد تم الجواب عند قوله (قل الله) يعنى الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ فقال (شهيد بيني وبينكم) أي هو شهيد بيني وبينكم. قوله (وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) أي أوحى الله إلى هذا القرآن الذي تلوته عليكم لآجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة. وفى هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجودا وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه. وقرأ أبو نهيك (وأوحى) على البناء للفاعل، وقرأ ابن عداة على البناء للمفعول. قوله (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) الاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية، وأما من قرأ على الخبر فقد حقق عليهم شركهم، وإنما قال (آلهة أخرى) لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، كذا قال الفراء، ومثله قوله تعالى - ولله الأسماء الحسنى - وقال - فما بال القرون الأولى - (قل لا أشهد) أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه، وذلك لكون هذه الشهادة باطلة، ومثله - فإن شهدوا فلا تشهد معهم - وما في (مما تشركون) موصولة أو مصدرية: أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة، أو من إشراككم بالله. قوله (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) الكتاب للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما: أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال به جماعة من السلف، وإليه ذهب الزجاج، وقيل إن الضمير يرجع إلى الكتاب: أي يعرفونه معرفة محققة بحيث لا يلتبس عليهم منه شئ، و (كما يعرفون أبناءهم) بيان لتحقق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها، فإن معرفة الآباء للأبناء هي البالغة إلى غاية الإتقان إجمالا وتفصيلا. قوله (الذين خسروا أنفسهم) في محل رفع على الابتداء. وخبره (فهم لا يؤمنون) ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وقيل إن الموصول خبر مبتدأ محذوف، وقيل هو نعت للموصول الأول. وعلى الوجهين الأخيرين يكون (فهم لا يؤمنون) معطوفا على جملة (الذين آتيناهم الكتاب).
والمعنى على الوجه الأول أن الكفار الخاسرين لأنفسهم بعنادهم وتمردهم لا يؤمنون بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الوجهين الأخيرين أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم فهم لا يؤمنون. قوله (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي اختلق على الله الكذب فقال: إن في التوراة أو الإنجيل ما لم يكن فيهما (أو كذب بآياته) التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة. فجمع بين كونه كاذبا على الله ومكذبا بما أمره الله بالإيمان به، ومن كان هكذا فلا أحد من عباد الله أظلم منه، والضمير في (إنه لا يفلح الظالمون) للشأن.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي قال: إنا نجد في التوراة أن الله خلق السماوات والأرض، ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون. وبها يتزاورون وبها تحن الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده. ورحمته أفضل وأوسع. وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " خلق الله يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة: منها رحمة يتراحم بها الخلق،