وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تحلو شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد). وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان، آية القلائد. وقوله (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم). وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في خطبته سورة المائدة والتوبة، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: " لما رجع صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية قال: يا علي أشعرت أنها نزلت علي سورة المائدة؟ ونعمت الفائدة " قال ابن العربي هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده وقال ابن عطية هذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله (إن الله يحكم ما يريد) فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. قوله (أوفوا بالعقود) يقال أوفي ووفى لغتان وقد جمع بينهما الشاعر فقال:
أما ابن طوف فقد أوفى بذمته * كما وفى بقلاص النجم حاديها والعقود: العهود. وأصل العقود الربوط، واحدها عقد، يقال عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني. وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام، قوى التوثيق، قيل المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام، وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات والأولى شمول الآية للأمرين جميعا، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض. قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله، فإن