كلمة الله عليه لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري، وجملة (قال فاهبط) استئنافية كالتي قبلها، والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر: أي اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع، فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ويعصي أمر ربه مثلك، ولهذا قال (فما يكون لك أن تتكبر فيها). ومن التفاسير الباطلة ما قيل إن معنى (اهبط منها) أي اخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها صورة مظلمة مشوهة، وقيل المراد هبوطه من الجنة، وقيل من زمرة الملائكة، وجملة (فاخرج) لتأكيد الأمر بالهبوط، وجملة (إنك من الصاغرين) تعليل للأمر: أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله وعلى صالحي عباده وهكذا كل من تردى برداء الاستكبار عوقب بلبس رداء الهوان والصغار. ومن ليس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع، وجملة (قال أنظرني إلى يوم يبعثون) استئنافية كما تقدم في الجمل السابقة: أي أمهلني إلى يوم البعث، وكأنه طلب أن لا يموت، لأن يوم البعث لا موت بعده، والضمير في (يبعثون) لآدم وذريته، فأجابه الله بقوله (إنك من المنظرين) أي الممهلين إلى ذلك اليوم، ثم تعاقب بما قضاه الله لك، وأنزله بك في دركات النار. قيل الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ليعرف من يطيعه ممن يعصيه، وجملة (قال فبما أغويتني) مستأنفة كالجمل السابقة واردة جوابا لسؤال مقدر، والباء في (فبما) للسببية والفاء لترتيب الجملة على ما قبلها، وقيل الباء للقسم كقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) أي فباغوائك إياي (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) والإغواء: الإيقاع في الغي، وقيل الباء بمعنى اللام، وقيل بمعنى مع. والمعنى: فمع إغوائك إياي، وقيل (ما) في (فبما أغويتني) للاستفهام. والمعنى: فبأي شئ أغويتني والأول أولى. ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سببا لما سيفعله مع العباد هو ترك السجود منه وأن ذلك كان بإغواء الله له، حتى اختار الضلالة على الهدى، وقيل أراد به اللعنة التي لعنه الله: أي فبما لعنتني فأهلكتني لأقعدن لهم ومنه - فسوف يلقون غيا - أي هلاكا. وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي غيا: إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه، ومنه - وعصى آدم ربه فغوى - أي فسد عيشه في الجنة (لأقعدن لهم) أي لأجهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي السجود لأبيهم. والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة، وانتصابه على الظرفية: أي في صراطك المستقيم كما حكى سيبويه ضرب زيد الظهر والبطن، واللام في (لأقعدن) لام القسم، والباء في (بما أغويتني) متعلقة بفعل القسم المحذوف: أي فبما أغويتني أقسم لأقعدن. قوله (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ذكر الجهات الأربع لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوه، ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت، وعدى الفعل إلى الجهتين الأوليين بمن، وإلى الآخريين بعن، لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجها إلى ما يأتيه بكلية بدنه، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفا، فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء، وفى الأخريين التعدية بحرف المجاوزة، وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة، وقيل المراد (من بين أيديهم) من دنياهم (ومن خلفهم) من آخرتهم (وعن أيمانهم) من جهة حسناتهم (وعن شمائلهم) من جهة سيئاتهم واستحسنه النحاس. قوله (ولا تجد أكثرهم شاكرين) أي وعند أن أفعل ذلك لا تجد أكثرهم شاكرين لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم، وهذا قاله على الظن ومنه قوله تعالى - ولقد صدق عليهم إبليس ظنه -، وقيل إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله، وعبر بالشكر عن الطاعة أو هو على حقيقته وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء، وجملة (قال اخرج منها) استئناف كالجمل التي قبلها أي من السماء أو الجنة أو من بين الملائكة كما تقدم (مذءوما) أي مذموما من ذأمه إذا زمه يقال ذأمته وذممته
(١٩٢)