رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير.
ثم قال (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) أي أي شئ ظنهم في هذا اليوم، وما يصنع بهم فيه، وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم، بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحل بهم من عذاب الله، و " يوم القيامة " منصوب بالظن، وذكر الكذب بعد الافتراء، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا لزيادة التأكيد. وقرأ عيسى بن عمر " وما ظن " على أنه فعل (إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بأنواع النعم في الدنيا والآخرة (ولكن أكثرهم لا يشكرون) الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات، وطرفة من الطرفات. قوله (وما تكون في شأن) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما نافية، والشأن: الأمر بمعنى القصد، وأصله الهمز، وجمعه شؤون. قال الأخفش: تقول العرب: ما شأنت شأنه: أي ما عملت عمله (وما تتلوا منه من قرآن) قال الفراء والزجاج: الضمير في منه يعود على الشأن، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف: أي تلاوة كائنة منه، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدث القرآن فيعلم كيف حكمه، أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن. وقال ابن جرير الطبري: الضمير عائد في منه إلى الكتاب: أي ما يكون من كتاب الله من قرآن، وأعاده تفخيما له كقوله - إني أنا الله -، والخطاب في (ولا تعملون من عمل) لرسول الله وللأمة، وقيل الخطاب لكفار قريش (إلا كنا عليهم شهودا) استثناء مفرغ من أعم الأحوال للمخاطبين: أي شهودا عليكم بعمله منكم، والضمير. في فيه من قوله (تفيضون فيه) عائد على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل: إذا اندفع فيه. وقال الضحاك: الضمير في فيه عائد على القرآن، والمعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب. قوله (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) قرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي، وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان فصيحتان، ومعنى يعزب: يغيب، وقيل يبعد.
وقال ابن كيسان: يذهب، وهذه المعاني متقاربة، ومن في (من مثقال) زائدة للتأكيد: أي وما يغيب عن ربك وزن ذرة: أي نملة حمراء، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شئ لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات، وقدم الأرض على السماء لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب، والواو في (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) للعطف على لفظ مثقال، وانتصبا لكونهما ممتنعين، ويجوز أن يكون العطف على ذرة، وقيل انتصابهما بلا التي لنفي الجنس، والواو للاستئناف، وليس من متعلقات وما يعزب، وخبر لا (إلا في كتاب) والمعنى: ولا أصغر من مثقال الذرة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين فكيف يغيب عنه؟ وقرأ يعقوب وحمزة برفع أصغر وأكبر، ووجه ذلك أنه معطوف على محل من مثقال، ومحله الرفع، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله، أو على لفظ ذرة إشكال، وهو أنه يصير تقدير الآية: لا يعزب عنه شئ في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشئ الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وهو محال. وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسماوات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأول، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شئ في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات، والغرض: الرد على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات. وأجيب أيضا بأن