قوله (واتل) معطوف على الأفعال المقدرة في القصص السابقة: وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة. وقد اختلف في هذا الذي أوتى الآيات (فانسلخ منها) فقيل:
هو بلعم بن باعوراء، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة، وقيل كان قد أوتى النبوة وكان مجاب الدعوة، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان، فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو عليه فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه، فقيل له في ذلك فقال: لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة وسأمكر لكم، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، فوقع بنو إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا، وقيل إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل، وقيل المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حسده وكفر به، وقيل هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية، فكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا بها، وقيل نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا به قوله (فانسلخ منها) أي من هذه الآيات التي أوتيها كما تنسلخ الشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال (فأتبعه الشيطان) عند انسلاخه عن الآيات: أي لحقه فأدركه وصار قرينا له، أو فأتبعه خطواته، وقرئ " فاتبعه " بالتشديد بمعنى تبعه (فكان من الغاوين) المتمكنين في الغواية وهم الكفار. قوله (ولو شئنا لرفعناه بها) الضمير يعود إلى الذي أوتى الآيات، والمعنى: لو شئنا رفعه:
بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها: أي بسببها، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها، وقيل المعنى ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصى فرفعناه إلى الجنة بها: أي بالعمل بها (ولكنه أخلد إلى الأرض) أصل الإخلاد اللزوم، يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه، والمعنى هنا: أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة (واتبع هواه) أي اتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا، وقيل كان هواه مع الكفار، وقيل اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله. قوله (فمثله كمثل الكلب:
أي فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا إلى أسفل رتبة مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة ممائلا له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه، فهو لاهث سواء زجر أو ترك طرد أو لم يطرد شد عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شئ، وجملة (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) في محل نصب على الحال: أي مثله كمثل الكلب حال كونه متصفا بهذه الصفة، والمعنى: أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شئ من ذلك. قال القتيبي: كل شئ يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك. قال الجوهري: لهث الكلب بالفتح يلهث لهثا ولهاثا بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا قيل معنى الآية: أنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإن تركته شد عليك