التنوين كما قال الزجاج وغيره، وإنما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة، والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم النصارى، والمراد بالثلاثة: الله سبحانه، وعيسى، ومريم كما يدل عليه قوله - أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين - وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقانيم: إقنيم الأب وإقنيم الابن، وإقنيم روح القدس، وقد تقدم في سورة النساء كلام في هذا، ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال (وما من إله إلا إله واحد) أي ليس في الوجود إلا الله سبحانه، وهذه الجملة حالية، والمعنى: قالوا تلك المقالة، والحال أنه لا موجود إلا الله، ومن في قوله (من إله) لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي (وإن لم ينتهوا يقولون) من الكفر (ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) جواب قسم محذوف ساد مسد جواب الشرط، وقوله (منهم) بيانية أو تبعيضية (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) الفاء للعطف على مقدر، والهمزة للإنكار.
قوله ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) أي هو مقصور على الرسالة، لا يجاوزها كما زعمتم، وجملة (قد خلت من قبله الرسل) صفة لرسول: أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلها، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها، فإن الله أحيا العصا في يد موسى وخلق آدم من غير أب. فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلها، فإن كان كما تزعمون إلها لذلك فمن قبله من الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة، وأنتم لا تقولون بذلك. قوله (وأمه صديقة) عطف على المسيح: أي وما أمه إلا صديقة: أي صادقة فيما تقوله أو مصدقة لما جاء به ولدها من الرسالة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء. قوله (كانا يأكلان الطعام) استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر: أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب، بل هو عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون ربا؟ وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته، فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله واجتماع الناسوت واللاهوت، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد (انظر كيف نبين لهم الآيات) أي الدلالات، وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة في من لا يقولون بأنه إله (ثم انظر أنى يؤفكون) أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟ يقال أفكه يأفكه إذا صرفه، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: جاء نافع ابن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حرملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكفرتم منها بما أمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم، فقالوا:
فإنا نؤخذ بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك، فأنزل الله فيهم (قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل) إلى قوله (القوم الكافرين). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله (وحسبوا أن لا تكون فتنة) قال: بلاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدى نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)