في قوله (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) قال: يعني الشك (إلا أن تقطع قلوبهم) يعني الموت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن حبيب بن أبي ثابت في قوله (ريبة في قلوبهم) قال: غيظا في قلوبهم (إلا أن تقطع قلوبهم) قال: إلى أن يموتوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله (إلا أن تقطع قلوبهم) قال: إلا أن يتوبوا.
سورة براءة الآية (111 - 112) لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم، وفرع على كل قسم منها ما هو لائق به عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه، وذكر الشراء تمثيل كما في قوله - أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى - مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء، وأصل الشراء بين العباد هو إخراج الشئ عن الملك بشئ آخر مثله أو دونه أو أنفع منه، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين: أي بأن يكونوا من جملة أهل الجنة، وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم، وهي أنفس الأعلاق، والجود بها غاية الجود:
يجود بالنفس إن ضن الجبان بها * والجود بالنفس أقصى غاية الجود وجاد الله عليهم بالجنة، وهي أعظم ما يطلبه العباد، ويتوسلون إليه بالأعمال، والمراد بالأنفس هنا أنفس المجاهدين، وبالأموال ما ينفقونه في الجهاد. قوله (يقاتلون في سبيل الله) بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل يقاتلون في سبيل الله، ثم بين هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله (فيقتلون ويقتلون) والمراد أنهم يقدمون على قتل الكفار في الحرب ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد والتعرض للموت بالإقدام على الكفار. قرأ الأعمش والنخعي وحمزة والكسائي " وخلف " بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل. وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول. وقوله (وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل كما وقع في القرآن، وانتصاب وعدا وحقا على المصدرية أو الثاني نعت للأول، وفي التوراة متعلق بمحذوف: أي وعدا ثابتا فيها. قوله (ومن أوفى بعهده من الله) في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد، والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال مالا يخفى فإنه أولا أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وجاء بهذه العبارة الفخيمة، وهي كون الجنة قد صارت ملكا لهم، ثم أخبر ثانيا بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزلة، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق لا بد من حصول الموعود به فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، ثم زادهم سرورا وحبورا، فقال