من أولياء) يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم وإنزال بأسه بهم، وجملة (يضاعف لهم العذاب) مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ليكون عذابا مضاعفا. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب " يضعف " مشددا (ما كانوا يستطيعون السمع) أي أفرطوا في إعراضهم عن الحق وبعضهم له، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار لفرط تعاميهم عن الصواب. ويجوز أن يراد بقوله (وما كان لهم من دون الله من أولياء) أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعا أو يدفعون عنهم ضررا، ويجوز أن تكون " ما " هي المدية. والمعنى: أنه يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والبصر. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه. قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب، يقال فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان: إذا كان ثقيلا عليه (أولئك) المتصفون بتلك الصفات (الذين خسروا أنفسهم) بعبادة غير الله. والمعنى: اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم ولم يبق بأيديهم إلا الخسران قوله (لا جرم) قال الخليل وسيبويه: " لا جرم " بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة، وبه قال الفراء.
وروى عن الخليل والفراء أنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا. وقال الزجاج: إن جرم بمعنى كسب: أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، وأن منصوبة بجرم. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة. وقال الكسائي: معنى لا جرم: لا صد ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال جماعة من النحويين: إن معنى لا جرم لا قطع قاطع (أنهم في الآخرة هم الأخسرون) قالوا: والجرم القطع، وقد جرم النخل واجترمه: أي قطعه، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حد يتقاصر عنه غيرهم ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقررة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها، وبين من كان على بينة من ربه (إن الذين آمنوا) أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله وغير ذلك من خصال الإيمان (وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) أي أنابوا إليه، وقيل خشعوا، وقيل خضعوا، قيل وأصل الإخبات الاستواء في الخبث: وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان. قال الفراء: إلى ربهم، ولربهم واحد (أولئك) الموصوفون بتلك الصفات الصالحة (أصحاب الجنة هم فيها خالدون). قوله (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) ضرب للفريقين مثلا وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أن كل فريق شبه بشيئين، أو شبه بمن جمع بين الشيئين، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم، والمؤمن شبه بمن جمع بن السمع والبصر، وعلى هذا تكون الواو في " والأصم "، وفي " والسميع " لعطف الصفة على الصفة، كما في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * والاستفهام في قوله (هل يستويان) للإنكار: يعني الفريقين، وهذه الجملة مقررة لما تقدم من قوله (أفمن كان على بينة من ربه) وانتصاب مثلا على التمييز من فاعل يستويان: أي هل يستويان حالا وصفة (أفلا تذكرون) في عدم استوائهما وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يخفى على من له تذكر، وعنده تفكر وتأمل، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين.
وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله (ومن أظلم) قال: الكافر والمنافق (أولئك يعرضون