مجاوزة الحد، لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بين أن الغلو في العبادة والإفراط في الطاعة على وجه تخرج به عن الحد الذي حده والمقدار الذي قدره ممنوع منه منهي عنه وذلك كمن يصوم ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام ويترك الحلال الذي أذن الله به ورغب فيه، ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه " أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته تغليبا لحالهم عل حاله، أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة (إنه بما تعملون بصير) يجازيكم على حسب ما تستحقون، والجملة تعليل لما قبلها. قوله (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) قرأ الجمهور بفتح الكاف.
وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما (تركنوا) بضم الكاف. قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس، قال أبو عمرو: وقراءة الجمهور هي لغة أهل الحجاز، قال: ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم. وقرأ ابن أبي عبلة بضم التاء وفتح الكاف على البناء للمفعول من أركنه. قال في الصحاح: ركن إليه يركن بالضم وحكى أبو زيد ركن إليه بالكسر يركن ركونا فيهما: أي مال إليه وسكن قال الله تعالى - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا. وأما ما حكى أبو زيد ركن يركن بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين انتهى. وقال في شمس العلوم: الركون السكون. يقال ركن إليه ركونا، قال الله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) انتهى. وقال في القاموس: ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركونا: مال وسكن انتهى، فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما قيده به صاحب الكشاف حيث قال: فإن الركون هو الميل اليسير، وهكذا فسره المفسرون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف، ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيودا لم يذكرها أئمة اللغة. قال القرطبي في تفسيره: الركون حقيقته الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشئ والرضا به. ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخص من معناه اللغوي. فروى عن قتادة وعكرمة في تفسير الآية أن معناها:
لا تودوهم ولا تطيعوهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية: الركون هنا الإدهان، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم: وقال أبو العالية: معناه لا ترضوا أعمالهم.
وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة؟ فقيل خاصة، وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين، وأنهم المرادون بالذين ظلموا، وقد روى ذلك عن ابن عباس، وقيل إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فإن قلت: وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتا لا يخفى على من له أدني تمسك بالسنة المطهرة بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح " أطيعوا السلطان وإن كان عبدا حبشيا رأسه كالزبيبة ". وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة، وما لم يظهر منهم الكفر البواح، وما لم يأمروا بمعصية الله. وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح، فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم، والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به الجهاد، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم، وإقامة الحدود على من وجبت عليه، وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله، ولا بد في مثل