في (فمن ثقلت موازينه) للتفصيل. والموازين: جمع ميزان، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال، وقيل إن الموازين جمع موزون: أي فمن رجحت أعماله الموزونة، والأول أولى. وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، وقيل هو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال: خرج فلان إلى مكة على البغال، والإشارة بقوله (فأولئك) إلى من، والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير (موازينه) باعتبار لفظه وهو مبتدأ خبره (هم المفلحون) والكلام في قوله (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) مثله، والباء في (بما كانوا بآياتنا يظلمون) سببية، وما مصدرية. ومعنى (يظلمون) يكذبون. قوله (ولقد مكناكم في الأرض) أي جعلنا لكم فيها مكانا وهيأنا لكم فيها أسباب المعايش. والمعايش جمع معيشة: أي ما يتعايش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة، يقال عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا. قال الزجاج: المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش، والمعيشة عند الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرأ الأعرج " معائش " بالهمز، وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال النحاس: والهمز لحن لا يجوز، لأن الواحدة معيشة والياء أصلية كمدينة ومداين وصحيفة وصحايف. قوله (قليلا ما تشكرون) الكلام فيه كالكلام فيما تقدم قريبا من قوله تعالى - قليلا ما تذكرون.
قوله (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) هذا ذكر نعمة أخرى من نعم الله على عبيده. والمعنى: خلقناكم نطفا ثم صورناكم بعد ذلك، وقيل المعنى: خلقنا آدم من تراب ثم صورناكم في ظهره، وقيل (ولقد خلقناكم) يعني آدم ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر (ثم صورناكم) راجع إليه، ويدل عليه (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) فإن ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصور آدم عليه السلام. وقال الأخفش: إن ثم في (ثم صورناكم) بمعنى الواو، وقيل المعنى: خلقناكم من ظهر آدم ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق، قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال، وقيل المعنى: ولقد خلقنا الأرواح أولا، ثم صورنا الأشباح، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم: أي أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر، وفعلوا السجود بعد الأمر (إلا إبليس) قيل الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس لأنه كان منفردا بينهم، أو كما قيل: لأن من الملائكة جنسا يقال لهم الجن، وقيل غير ذلك، وقد تقدم تحقيقه في البقرة. قوله (لم يكن من الساجدين، جملة مبينة لما فهم من معنى الاستثناء ومن جعل الاستثناء منقطعا قال معناه: لكن إبليس لم يكن من الساجدين، وجملة (قال ما منعك ألا تسجد) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل فماذا قال له الله؟ و " لا " في (أن لا تسجد) زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص - ما منعك أن تسجد -، وقيل إن منع بمعنى قال، والتقدير: من قال لك أن لا تسجد، وقيل منع بمعنى دعا: أي ما دعاك إلى أن لا تسجد، وقيل في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد (إذ أمرتك): أي وقت أمرتك، وقد استدل به على أن الأمر للفور، والبحث مقرر في علم الأصول، والاستفهام في (ما منعك) للتقريع والتوبيخ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك، وجملة (قال أنا خير منه) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما قال إبليس؟ وإنما قال في الجواب أنا خير منه، ولم يقل منعني كذا، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع وهو اعتقاده أنه أفضل منه. والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله (خلقتني من نار وخلقته من طين) اعتقادا منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين. وقد أخطأ عدو الله فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه وهي حقيقة مضطربة سريعة النفاد، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها، وهي عذاب دونه، وهي محتاجة وكان إليه لتتحيز فيه وهو مسجد وطهور، ولولا سبق شقاوته وصدق