المتقدمة، فإن تلك إشارة إلى غائب مؤنث، وقيل (تلك) بمعنى هذه: أي هذه آيات الكتاب الحكيم، وهو القرآن، ويؤيد كون الإشارة إلى القرآن أنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، وأن الحكيم من صفات القرآن لا من صفات غيره، و (الحكيم) المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام، قاله أبو عبيدة وغيره، وقيل الحكيم معناه الحاكم فهو فعيل بمعنى فاعل كقوله - وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه -، وقيل الحكيم بمعنى المحكوم فيه فهو فعيل بمعنى مفعول: أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان، قاله الحسن وغيره، وقيل الحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها والاستفهام في قوله (أكان للناس عجبا) لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ، واسم كان (أن أوحينا) وخبرها (عجبا) أي أكان إيحاؤنا عجبا للناس. وقرأ ابن مسعود " عجب " على أنه اسم كان، على أن كان تامة، و (أن أوحينا) بدل من عجب. وقرئ بإسكان الجيم من " رجل " في قوله (إلى رجل منهم) أي من جنسهم وليس في هذا الإيحاء إلى رجل من جنسهم ما يقتضى العجب فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال، لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره، فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني، وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم، أو في الشكل الإنساني فلا بد من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان، هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم، وإن كان لكونه يتيما أو فقيرا، فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعا من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره وبالغا في كمال الصفات إلى حد يقصر عنه من كان غنيا، أو كان غير يتيم، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يصطفيه الله بإرساله من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس وأظهر من النهار، حتى كانوا يسمونه الأمين، قوله (أن أنذر الناس) في موضع نصب بنزع الخافض: أي بأن أنذر الناس، وقيل هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول، وقيل: هي المخففة من الثقيلة. قوله (قدم صدق) أي منزل صدق، وقال الزجاج: درجة عالية، ومنه قول ذي الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها * مع الحسب العالي طمت على البحر وقال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف، وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال: لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق، وقدم خير، وقدم شر، ومنه قول العجاج:
زل بنو العوام عند آل الحكم * وتركوا الملك لملك ذي قدم وقال ثعلب: القدم كل ما قدمت من خير، وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء، وقال قتادة: سلف صدق، وقال الربيع: ثواب صدق، وقال الحسن: هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الحكيم الترمذي: قدمه صلى الله عليه وآله وسلم في المقام المحمود، وقال مقاتل: أعمالا قدموها واختاره ابن جرير، ومنه قول الوضاح:
صل لذي العرش واتخذ قدما * ينجيك يوم الحصام والزلل وقيل غير ما تقدم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده. قوله (قال الكافرون إن هذا لسحر مبين). قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش وابن محيصن " لساحر " على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسم الإشارة. وقرأ الباقون " لسحر " على أنهم أرادوا القرآن، وقد تقدم معنى السحر في البقرة، وجملة (قال الكافرون) مستأنفة كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب، وقال القفال: فيه إضمار، والتقدير: فلما أنذرهم قال