وجهان في العربية، وإن كانت بعيدة: الأول أن الكسائي والفراء قالا: إن يهدي بمعنى يهتدى. الثاني أن أبا العباس قال: إن التقدير أم من لا يهدي غيره، ثم تم الكلام وقال بعد ذلك (إلا أن يهدى) أي لكنه يحتاج أن يهدى، فهو استثناء منقطع كما تقول فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع: أي لكنه يحتاج أن يسمع. والمعنى على القراءات المتقدمة: أفمن يهدى الناس إلى الحق، وهو الله سبحانه أحق أن يتبع ويقتدى به، أم الأحق بأن يتبع ويقتدى به من لا يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره فضلا عن أن يهدى غيره؟ والاستثناء على هذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال.
قوله (فما لكم كيف تحكمون) هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين: أي أي شئ لكم كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله، وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ، وكيف في محل نصب بتحكمون، ثم بين سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم، وعلى أي شئ بنوه، وبأي شئ اتبعوا هذا الدين الباطل، وهو الشرك فقال (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا) وهذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة - والمعنى: ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله وجعلهم له أندادا إلا مجرد الظن والتخمين والحدس، ولم يكن ذلك عن بصيرة، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله، وأنها تشفع لهم، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط، بل مجرد خيال مختل وحدس باطل، ولعل تنكير الظن هنا للتحقير: أي إلا ظنا ضعيفا لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون. وقيل المراد بالآية إنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظنا. والأول أولى. ثم أخبرنا الله سبحانه بأن مجرد الظن لا يغني من الحق شيئا، لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم، وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم، ولا يدرك به الحق، ولا يغني عن الحق في شئ من الأشياء، ويجوز انتصاب شيئا على المصدرية أو على أنه مفعول به، ومن الحق حال منه والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه (إن الله عليم بما يفعلون) من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان. قوله (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه شرع في تثبيت أمر النبوة: أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة والبراهين الواضحة يفترى من الخلق من دون الله، وإنما هو من عند الله عز وجل، وكيف يصح أن يكون مفترى، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لسانا وأدقهم أذهانا (ولكن) كان هذا القرآن (تصديق الذي بين يديه) من الكتب المنزلة على الأنبياء، ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة، لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ولا اتصل بمن له علم بذلك، وانتصاب تصديق على أنه خبر لكان المقدرة بعد لكن، ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف: أي لكن أنزله الله تصديق الذي بين يديه. قال الفراء: ومعنى الآية، وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله - وما كان لنبي أن يغل - وما كان المؤمنون لينفروا كافة. وقيل إن " أن " بمعنى اللام:
أي وما كان هذا القرآن ليفترى، وقيل بمعنى لا: أي لا يفترى. قال الكسائي والفراء: إن التقدير في قوله (ولكن تصديق) ولكن كان تصديق، ويجوز عندهما الرفع أي ولكن هو تصديق، وقيل المعنى: ولكن القرآن تصديق (الذي بين يديه) من الكتب: أي أنها قد بشرت به قبل نزوله فجاء مصدقا لها، وقيل المعنى: ولكن تصديق النبي الذي بين يدي القرآن، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن. قوله وتفصيل الكتاب) عطف على قوله (ولكن تصديق الذي بين يديه) فيجئ فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في تصديق، والتفصيل: التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة، والكتاب للجنس، وقيل أراد ما بين في القرآن من الأحكام، فيكون المراد بالكتاب: القرآن. قوله (لا ريب فيه) الضمير عائد إلى القرآن، وهو