سورة المائدة الآية (107 - 108) قال مكي: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما. قال ابن عطية:
هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله: يعني من كتاب مكي. قال القرطبي:
ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا. قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما. قوله (شهادة بينكم) أضاف الشهادة إلى البين توسعا لأنها جارية بينهم، وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت " ما " وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى - بل مكر الليل والنهار - ومنه قول الشاعر:
تصافح من لاقيت لي ذا عداوة * صفايا وعني بين عينيك منزوي أراد ما بين عينيك، ومثله قول الآخر: * ويوما شهدناه سليما وعامرا * أي شهدنا فيه، ومنه قوله تعالى - هذا فراق بيني وبينك - قيل والشهادة هنا بمعنى الوصية، وقيل بمعنى الحضور للوصية. وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى: يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود. قوله (إذا حضر أحدكم الموت) ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس. وقوله (حين الوصية) ظرف لحضر أو للموت، أو بدل من الظرف الأول. وقوله (اثنان) خبر شهادة على تقدير محذوف: أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف: أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان، ذكر الوجهين أبو علي الفارسي. قوله (ذوا عدل منكم) صفة للاثنان وكذا منكم: أي كائنان منكم: أي من أقاربكم (أو آخران) معطوف على (اثنان)، و (من غيركم) صفة له: أي كائنان من الأجانب، وقيل إن الضمير في (منكم) للمسلمين، وفى (غيركم) للكفار وهو الأنسب لسياق الآية، وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله ابن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي، فإذا لم يكن مع الموصى من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم حينئذ بشهادتهما (فإن عثر) بعد ذلك (على أنهما) كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصى وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل. وذهب إلى الأول: أعني تفسير ضمير (منكم) بالقرابة أو العشيرة، وتفسير (من غيركم) بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة. وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله - ممن ترضون من الشهداء -.
وقوله - وأشهدوا ذوي عدل منكم - والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول، وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ. وأما قوله تعالى - ممن ترضون من الشهداء - وقوله - وأشهدوا ذوي عدل منكم - فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض